20/3/2020
إلى أين تتجه العلاقات بين أوروبا ومجلس التعاون الخليجي؟
شهد عام 1971 نهاية السيطرة الاستعمارية للقوى الأوروبية على دول الخليج، وذلك بنهاية وجود الإمبراطورية البريطانية في المنطقة، بعد أن كانت تسيطر على مسار السياسة المحلية والشؤون الاقتصادية والعسكرية فيها؛ حيث حلت محلها الولايات المتحدة من خلال ازدياد نفوذها الأمني والاقتصادي، ولم يتبق للنفوذ الأوروبي سوى القليل من العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول. ومع ذلك فإن التغيرات التي شهدتها المنطقة بداية من عام 2011، أدت إلى تراجع هيمنة واشنطن فيها، كما أضحت دول مجلس التعاون الخليجي جهات فاعلة أكثر من ذي قبل، وهو ما أتاح لها حرية أكبر في إقامة علاقات مع من ترغب من الدول.
وفي إطار ذلك انبرى عدد من الدراسات في تحليل عوامل تغير التوازنات الاستراتيجية في المنطقة وتداعياتها، حيث ركز العديد منها على أسباب تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وأخرى ناقشت التوازنات الدولية الجديدة في المنطقة في إطار التهديدات؛ بيد أن قليلا منها ركز على طبيعة علاقات الدول الأوروبية مع دول الخليج، وإمكانية تعزيزها. وكان من بين هذه الدراسات دراسة بعنوان: «كيف ستكتسب أوروبا مزيدًا من النفوذ بعلاقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي؟»، للباحثة «سينزيا بيانكو»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، وتناولت فيها سبل إعادة ضبط العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول الأوروبية.
في البداية، قامت «بيانكو» بتقديم شرح واف لسياق تراجع العلاقات الأوروبية الخليجية بطريقة مكنت الولايات المتحدة من الإحلال محلها، بفعل قوتها كعملاق اقتصادي وعسكري لا يستهان به، وهو ما مكنها خاصة بعد فترة الحرب الباردة من خلق هيمنة أحادية الجانب على الخليج لتلبية كافة احتياجاته الأمنية والاقتصادية. وشملت المساعدات الأمنية مبيعات الأسلحة، والالتزام الواسع بمكافحة التهديدات التي تواجه دول مجلس التعاون كالتهديد الإيراني؛ في حين أن المساعدات الاقتصادية تمثلت في استثمارات الشركات الأمريكية بقوة في المنطقة في عدد من مشاريع التنمية والقطاع الخاص. علاوة على ذلك فالولايات المتحدة تعد مستوردا كبيرا للطاقة من الخليج، وهو ما عاد عليهم بعائدات ضرورية لتلبية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأدى ذلك إلى تراجع النفوذ الأوروبي بشكل كبير؛ فعلاقات دول الخليج بالدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا، بغض النظر عن علاقاتها السابقة، يطغى عليها اليوم الجانب الاقتصادي أكثر من السياسي أو الدبلوماسي أو الأمني.
وفي الوقت الحاضر تضاءلت العلاقات ما بين الخليج وواشنطن أكثر مع ظهور التعددية القطبية. وأدى انسحاب الأخيرة من المنطقة إلى فتح الفرص للعديد من الفاعلين النشطين لتوسيع علاقاتهم مع الخليج كروسيا والصين، وهو التغير الذي بدأ بعد عام 2011. وفي هذا السياق، تعتبر «بيانكو» أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة بمثابة تهديد للأمن القومي للعديد من العواصم الخليجية، وهو ما يمنح الفرصة لأوروبا لتعود كشريك استراتيجي مهم لدول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما سيعود بالنفع على الطرفين؛ كما أن الأوروبيين لم يتطلعوا أبدا لخسارة علاقاتهم مع جيرانهم في الجنوب، وأن نهجهم في عدم التدخل لمعالجة حالة عدم الاستقرار المتزايد في المنطقة يعتبر غير منطقي بشكل كبير.
وترى «بيانكو»، أن هناك عددا من العوامل التي تعزز الشراكة الاستراتيجية الأوروبية الخليجية؛ فمن جهة، يتشابه كلاهما في نظرتهم لإيران، حيث يعتبران أن السياسة العدائية التي تتبناها تهديد دائمًا ليس فقط للأمن في الشرق الأوسط، ولكن أيضا للعالم بشكل أوسع. ومع ذلك، تتبنى معظم دول مجلس التعاون الخليجي نهجا مختلفا عن أوروبا في القضاء على هذا التهديد، مفضلين المواجهة على الدبلوماسية التي أبدتها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا من خلال توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. لكن يظل الهدف النهائي لهما هو الحد من العدوان الإيراني، من خلال الحد من السياسات العدائية لها ولأذرعها من المليشيات العسكرية المنتشرة في المنطقة، والتي تهدد المصالح الأوروبية والخليجية على حد سواء.
ومن جهة أخرى، يعد التصدي للجماعات والآيديولوجيات الجهادية هدفا مشترك لكليهما؛ فقد عانت كلتا المنطقتين من ويلات الإرهاب في السنوات الأخيرة، حيث تعرضت أوروبا لعدد من الهجمات القاتلة في عدد من المدن الرئيسية فيها مثل: باريس، ولندن، وبرشلونة، وبروكسل، ومدريد، كما تعرضت دول الخليج لعدد من الهجمات التي قد تهدد التجارة أو تعطل إمدادات الطاقة؛ وهو ما أدى إلى وجود عمليات لتبادل المعلومات الاستخبارية بين الخليج وأوروبا. ويمكن هنا أن نشير إلى ما يراه «بشارة خضر»، مدير مركز «دراسات وأبحاث العالم العربي المعاصر»، من أنه: «على الرغم من أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي لا تبدو أنها تقوم على التعاطف التلقائي أو القرب الثقافي أو نظام قيم مماثل، إلا أنها يمكن أن تبُنى على أساس المصالح والتحديات المشتركة».
ويشير التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى اعتماد نهج متماسك، يعمل بشكل جماعي كممثل دبلوماسي وأمني، متغلبا على نقاط ضعف الدول الأعضاء التي تعمل بشكل فردي بتعاونها مع الدول الأكبر والأكثر استقرارا، ويستشهد بالبعثة البحرية الفرنسية التي أُرسلت إلى الخليج في أعقاب الأعمال العدائية بين إيران والغرب في المنطقة في مايو ويونيو 2019، والتي شملت بلجيكا والدنمارك وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا كمثال يثبت فاعلية الوحدة الأوروبية في إبراز نفوذها في الخليج.
وعلى الرغم من أهمية ما طرحه التقرير، فإنه يغفل عن القيود الواضحة التي من المحتمل أن تعرقل أي علاقة مزدهرة بين دول الاتحاد الأوروبي، ودول مجلس التعاون، ولعل أهمها هو الضرر الذي سيحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للنفوذ الدبلوماسي الأوروبي، وخاصة أن بريطانيا لديها علاقات وطيدة مع الخليج أكثر من أي دولة في الاتحاد، وربما تكون الدولة الوحيدة التي لها تأثير دبلوماسي كبير في المنطقة، وبالتالي فإن خروجها من الاتحاد الأوروبي سيكون ضربة قوية في إقامة علاقات مع دول الخليج مثل عُمان والبحرين والكويت. كذلك لا تقدم «بيانكو» أي نقاش حول احتمالية وقوف بريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة بشأن مبادرة الشحن البحري في الخليج؛ وكيف يمكن أن يتعلق هذا بتغيير نهج لندن على المدى الطويل ليبتعد عن الانحياز إلى بروكسل في الشرق الأوسط، مثل دورها في خطة العمل الشاملة المشتركة، وتصبح داعمة لواشنطن. فيما لم تناقش «بيانكو» احتمالية سعي عواصم الخليج إلى توسيع علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي خارج نطاق الاقتصاد؛ وخاصة أنه لدى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، العديد من الخلافات مع الاتحاد والدول الأوروبية، وخاصة بعد مشاركتهم في خطة العمل الشاملة المشتركة، وتقاعسهم عن التدخل في سوريا وليبيا.
وبالتالي بروز دول الخليج كجهات فاعلة، من الممكن أن ترفض توسيع العلاقات مع الدول الأوروبية، والاحتفاظ بدلا من ذلك بالاستقلال الذاتي الاستراتيجي.
وعلى الرغم من وجود نقص في شمولية حججها، فإن «بيانكو»، نجحت في تقديم دراسة رائدة في هذا الشأن، حيث أثارت عددا من النقاط المهمة التي تدعو إلى توثيق العلاقات بين أوروبا ودول مجلس التعاون، خاصة مع تراجع النفوذ الأمريكي. ومع ذلك يبقى تعزيز العلاقات الأوروبية الخليجية الأمنية غير ممكن حاليا، فعلى الرغم من تراجع النفوذ الأمريكي والسماح لدول كبرى أخرى بالتواجد، فإنه في حالة تهديد أي من مصالح واشنطن الحيوية في المنطقة، فإنها لن تتوانى عن إعادة بسط نفوذها مرة أخرى من خلال قوتها العسكرية الأكبر في العالم. علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة مازالت تحتفظ بمظلتها الأمنية على معظم دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإنها لن تسمح لدول أوروبا بالتحرك الجماعي أمنيا، حتى لا يتراجع نفوذها عليهم من خلال حلف الناتو.
على العموم، هناك احتمالية لتعزيز العلاقات الأوروبية الخليجية لكن بالقدر الذي تسمح به الولايات المتحدة، وأن هذا التحرك لن يكون تحركا جماعيا، كما أن هذا التعزيز لن يحدث طالما تمسكت الدول الأوروبية الكبرى بالاتفاق النووي الإيراني، وبالتالي فأقصى تعزيز للعلاقات في الوقت الحالي يمكن أن يحدث على مستوى التدفقات التجارية والاستثمارية، مع تعاون أمني فردي محدود.