7/3/2020
العلاقات الخليجية -الإفريقية.. طموحات تتجاوز الخلافات
تحظى قارة إفريقيا، وبخاصة منطقة القرن الإفريقي التي تضم كلا من إثيوبيا والصومال وجيبوتي وإريتريا، إضافة إلى أوغندا والسودان وكينيا؛ بأهمية استراتيجية للدول الخليجية، إذ تُعدُّ هذه المنطقة بمنزلة «جناح العالم العربي الإسلامي» في إفريقيا، فضلا عما تحظى به من أهمية استراتيجية كبيرة، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، من جهة أنها تطل على خليج عدن، وتشرف على باب المندب، كما أنها مقابلة لشبه الجزيرة العربية، والخليج العربي، وملاصقة لإقليم البحيرات العظمى في وسط إفريقيا، والذي يتميز بغنى موارده المائية، والنفطية، والمعدنية، ولهذا فإنها بما تمثله من عمق استراتيجي للأمن القومي الخليجي؛ أصبحت تدفع هذه الدول إلى إعطاء مزيد من الاهتمام لها وبذل جهود إضافية لوضعها ضمن دائرة التفاعل والتأثير والاهتمام، ولا سيما أنها ساحة لمطامع العديد من القوى الإقليمية والدولية.
ودعما لهذه الخطوات، أعلنت الإمارات في فبراير 2020 مبادرة بقيمة 500 مليون دولار، بهدف الإسهام في تحقيق رؤية «بناء متسارع لإفريقيا جديدة أكثر اتصالا وتمكينًا يقودها الشباب»، لدى اجتماع ممثلي الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، والذي شهد إعلان كونسورتيوم الإمارات من أجل إفريقيا، والذي سيتولى تنسيق التزام حكومة الإمارات وقطاعها الخاص تجاه إفريقيا. وتسعى دولة الإمارات من خلال هذه المبادرة وغيرها إلى الفوز بالفرص الاستثمارية الواعدة، خاصة مع بدء عملية التحول الرقمي في الاقتصادات الإفريقية، لتبني على تاريخ طويل من الوجود الاستثماري الإماراتي في القارة السمراء، غدت به ثاني أكبر مستثمر فيها، فضلا عن تقديمها الدعم لمجموعة متنوعة من مشاريع الجسور والموانئ والمدارس والمستشفيات. وارتباطًا بهذه المبادرة يشارك الاتحاد الإفريقي في إكسبو 2020 بدبي بعرض تاريخ القارة وإنجازاتها.
دلالة هذا التوجه، توضح أن الاهتمامات الخليجية بإفريقيا لم تعد فقط محصورة في الإعانات الإنسانية التي تقدمها دول الخليج الغنية للشعوب الإفريقية - وإن كانت هذه الدول تأتي في مقدمة المانحين - وإنما أصبح التوجه الاقتصادي لقارة المستقبل، التي تتسابق على الوجود والاستثمار فيها قوى العالم الاقتصادية، في مقدمة اهتمامات دول الخليج بإفريقيا. عزز هذا ما أعلنه ولي العهد السعودي، الأمير «محمد بن سلمان»، أثناء زيارته لجنوب إفريقيا في 2018 عن اتجاه المملكة العربية السعودية لاستثمار ما لا يقل عن 10 مليارات دولار في «كيب تاون» معظمها في قطاع الطاقة، بما في ذلك بناء معامل تكرير. وفي نفس العام كانت الرياض قد أعلنت إنشاء وزارة للشؤون الإفريقية، تولَّى مهمتها سفير السعودية السابق لدى القاهرة «أحمد قطان» في دلالة على عمق الاهتمامات الخليجية بهذه القارة.
ويبرز البعد الاقتصادي في الاهتمامات الخليجية بإفريقيا، كون القارة غنية بثرواتها من الموارد الطبيعية، فيما يضرب الفقر شعوبها، فقد سعت كل من السعودية والإمارات والكويت إلى الاستثمار في الكثير من المشاريع التنموية في عدد من بلدان القارة، كتدشين محطة طاقة شمسية سعودية في جنوب إفريقيا بقيمة 328 مليون دولار، وتوجه الرياض إلى إقامة خطوط ملاحة مباشرة بين جيبوتي وجدة لدعم التبادل التجاري بين البلدين، وتعزيز وجود المنتجات السعودية في منطقة القرن الإفريقي، فيما يبلغ حجم التبادل التجاري بين السعودية وجنوب إفريقيا وحدها نحو 5 مليارات دولار سنويًا، تمثل النصيب الأكبر في التجارة العربية الإفريقية.
وفي معرض إفريقيا التجاري الذي أقيم في يونيو 2019 بجوهانسبرج أعلنت الإمارات ضخ استثمارات مباشرة بقيمة 10 مليارات دولار، فيما كانت استثمارات جنوب إفريقيا لدى دولة الإمارات 1.4 مليار دولار. وتعد الإمارات من أكبر 5 مستثمرين في القارة، وتتجه إلى توسيع مجالات استثماراتها لتشمل الزراعة والصناعة والمعادن والنفط والغاز والخدمات اللوجستية والبنية التحتية والمواصلات والسياحة. وبلغ حجم التبادل التجاري غير النفطي بين جنوب إفريقيا والإمارات وحدها نحو 4 مليارات دولار، فيما تستحوذ الأخيرة على نحو65% من صادرات جنوب إفريقيا إلى الدول العربية.
وفي جلسة آفاق الاستثمار العربي الإفريقي المشترك في ظل اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية، ضمن فعاليات منتدى الاستثمار من أجل إفريقيا 2019. التي عقدت بالعاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة، كشف المدير العام للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، أن الصندوق أسهم في تمويل 324 مشروعا، استفادت منها 42 دولة إفريقية غير عربية، بقروض بلغت قيمتها نحو 4 مليارات دولار، وبلغت الاستثمارات الكويتية في القارة قرابة 10 مليارات دولار، فيما بلغ إجمالي مساعدات مجموعة المؤسسات العربية لدول القارة أكثر من 100 مليار دولار، أما الاستثمارات الخليجية في البنية التحتية فقد بلغت أكثر من 30 مليار دولار خلال العقد الممتد من 2004 – 2014. تمثل ما بين 7 – 10% من إجمالي الاستثمارات الخارجية التي استقبلتها إفريقيا في هذا الشأن.
وكانت الكويت قد استضافت أعمال «القمة العربية الإفريقية» الثالثة في نوفمبر 2013. تحت شعار شركاء في التنمية والاستثمار، وأعلن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد، خلالها، مبادرات اقتصادية كبرى لتلبية احتياجات الشعوب الإفريقية، ووجه الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، بتقديم قروض ميسرة للدول الإفريقية تبلغ مليار دولار على مدى 5 سنوات، وكذلك استثمار وضمان استثمار لمبلغ مماثل، مع التركيز على البنية التحتية، بالتعاون مع البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى، كما خصصت الكويت جائزة مالية سنوية بمبلغ مليون دولار للأبحاث التنموية في إفريقيا تحت إشراف مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
وتسعى دول الخليج إلى الاستفادة من الفرص الواعدة التي تقدمها الزراعة الإفريقية، سواء كسوق يستوعب صادراتها من الأسمدة أو الاستثمار في تحقيق الأمن الغذائي الخليجي، فبحلول عام 2030 سيتمكن قطاع الزراعة والصناعات الغذائية في إفريقيا من إنشاء سوق بقيمة تريليون دولار في حال استغلاله الأفضل للموارد المائية في الزراعة، ولدى دول الخليج فرص واعدة في هذا السوق، إذ تزدهر لديها صناعة البتروكيماويات المنتجة للأسمدة التي يحتاج إليها النشاط الزراعي الإفريقي، وتتوجه السعودية إلى أن تكون ثاني أكبر دول العالم إنتاجًا للأسمدة الفوسفاتية، بإنتاج 9 ملايين طن سنويًا، وهو ما يعزز الناتج المحلي السعودي غير النفطي بنحو 6.1 مليارات دولار.
ومع ذلك، فإن هذا الاهتمام لا يقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، ولكنه يمتد إلى الجانب الجيوسياسي، في ظل صراع محتدم وتنافس دولي وإقليمي، خاصة في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، ونشير هنا إلى الاتفاقية التركية السودانية لإدارة جزيرة سواكن التي أبرمها الرئيس السوداني السابق، «عمر البشير»، مع الرئيس التركي، «رجب طيب أردوجان»، كما نشير إلى سعي إيران لمد نفوذها في عديد من دول إفريقيا، حتى في غربها، وقيامها بنشاط تبشيري للمذهب الشيعي في هذه الدول، فضلا عما تقوم به إسرائيل من نشاط ترتب عليه عدول عدد من الدول الإفريقية عن موقفها المساند للقضية الفلسطينية، لصالح دولة الاحتلال.
وتسعى السعودية، التي تقود العمل الخليجي المشترك لامتلاك زمام المبادرة وقوة التأثير - بدلا من الاكتفاء بالتأثر وردود الأفعال - في منطقة جوار إقليمي، لا انفصال بين تحقيق الاستقرار والأمن بها والمحافظة على الأمن الخليجي، وهي منطقة واسعة المساحة كثيرة السكان متعددة العرقيات والثقافات، لا بد فيها من الحركة الدبلوماسية النشطة في عديد من الأطر والأدوات والحلقات، ومع إطلالة عدد من الدول الإفريقية على ممرات ومناطق عبور التجارة الخليجية كان تأسيس «مجلس الدول العربية والإفريقية المطل على البحر الأحمر وخليج عدن» في 6 يناير 2020. كما أصبحت هناك حاجة إلى تبني استراتيجية بعيدة المدى، لبناء علاقات ثقة مع الدول الإفريقية، وشراكات استراتيجية، فضلا عن النشاط التنموي والخدمات الإنسانية.
ويبرز البعد الجيوسياسي في الاهتمامات الخليجية بالقارة الإفريقية، في احتضان «جدة» اتفاق السلام بين أثيوبيا وإريتريا في سبتمبر 2018. الذي جاء بعد جهود دبلوماسية مكثفة قامت بها السعودية والإمارات في الشهور التي سبقت توقيع هذا الاتفاق، الذي وضع حدًا للحروب والنزاعات بين هذين البلدين الإفريقيين، استمرت على مدى عقد من الزمن، كما لقيت الوساطة السعودية لتطبيع العلاقات بين جيبوتي وإرتيريا، ترحيبا حارًا من كلا الجانبين.
وتكشف هذه الجهود الدبلوماسية عن مسعى لتحقيق السلام في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وتؤسس لبناء قوس من التأثير الخليجي فيها، بهدف استباق جهود قوى منافسة، وعلى الأخص اتساع النفوذ الإيراني وامتداده إلى هذه المنطقة عبر اليمن، ويمتد هذا القوس السعودي الإماراتي إلى الصومال، وقد أسفرت هذه الجهود بالفعل عن مشاركة إريتريا في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، واستضافتها لقاعدة عسكرية إماراتية على مقربة من ميناء عصب، فيما تسعى شركة موانئ دبي العالمية إلى المساعدة في تطوير هذا الميناء التجاري. وفي أغسطس 2018 أعلنت الإمارات عن مشروع لمد خط أنابيب بين عصب في إريتريا وأديس أبابا العاصمة الأثيوبية. ويتيح الاتفاق الإريتري الأثيوبي لكل من الإمارات والسعودية وصولا أكبر إلى الإنتاج الزراعي الأثيوبي، ارتباطًا بأمنهما الغذائي.
ويظهر هذا البعد الجيوسياسي أيضًا في الاهتمامات الخليجية بالقارة الإفريقية في تنامي العلاقات السعودية الإماراتية مع جنوب إفريقيا، حيث تستحوذ الدولتان على ثلث صادرات جنوب إفريقيا من الأسلحة، وقد أسفرت جهود البلدين الدبلوماسية عن قيام كيب تاون في فبراير 2020 برفع القيود عن مبيعات الأسلحة لهاتين الدولتين والتي تبلغ قرابة مليار دولار. ويبدو هذا البعد أيضًا في مواجهة تمدد النفوذ الإيراني في القارة، حيث سعت طهران إلى رفع درجة تمثيلها الدبلوماسي في العقد الأخير لدى أكثر من 30 دولة، مستغلة انشغال الدول العربية بقضاياها الداخلية، للقيام بنشاط ديني وثقافي يروج للنظام الإيراني بإفريقيا. ومع ذلك، أدى النشاط الدبلوماسي للحكومة السعودية، خاصة بعد الاعتداءات الإرهابية الإيرانية على مواقع سعودية إلى قيام العديد من الدول الإفريقية بتحجيم علاقاتها مع طهران أو حتى قطع علاقاتها معها مثل «الصومال – جيبوتي – جزر القمر».
على العموم، يمكن القول إن الأمن الإقليمي لدول الخليج العربية، وتأمين المجرى التجاري للنفط والبضائع، يتوقف على مدى استمرار دفع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع دول القارة الإفريقية نحو مزيد من التفاعل والتعاون البناء، خاصة في ظل الإيجابيات المختلفة العائدة على الطرفين الخليجي والإفريقي في المجالات المختلفة جراء التقارب بينهما.