25/2/2020
«علم المحاربين».. أو معركة القلوب والعقول في الشرق الأوسط
أدى التطور في مجال التكنولوجيا إلى توسيع نطاق الترابط بين الشعوب بشكل كبير، وذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، والإنترنت وأنظمة الاتصال المتكاملة؛ فضلا عن تسخير هذه الوسائل من قبل كثير من الأشخاص بغرض تعزيز مصالحهم الخاصة، إلى حد استخدام الحرب الدعائية الإعلامية أو «حرب المعلومات» من قبل الدول والجماعات والأفراد، بغرض توجيه رسائل لجمهور المستمعين أو المشاهدين لتعزيز وإضفاء الشرعية على تصرفاتهم.
وعلى الرغم من أن «حرب المعلومات» تعتبر ظاهرة عالمية، فإن الدور الذي لعبته -ولا تزال- في الشرق الأوسط هو الأكثر أهمية على مستوى العالم، خاصة منذ بداية الحرب العالمية الأولى والتوسع في انتشار الراديو والسينما والتليفزيون؛ حيث استخدمتها القوى الأجنبية لإضفاء الشرعية على تدخلاتها العسكرية وتصرفاتها الاستعمارية في المنطقة.
وفي هذا الإطار عقد «مجلس تعزيز التفاهم العربي - البريطاني»، بلندن، يوم 6 فبراير 2020, ندوة بعنوان «كيف شكلت حرب المعلومات الخفية ملامح الشرق الأوسط»؛ بمناسبة تدشين كتاب «علم المحاربين.. معركة القلوب والعقول في الشرق الأوسط»؛ لمؤلفه «فيفيان كينروس»، الباحث في شؤون الشرق الأوسط، الذي عرض لأهم أفكاره وسط لفيف من الباحثين والخبراء، المهتمين والمعنيين بقضايا الشرق الأوسط، وبموضوع الكتاب، واستطاع تقديم إطار شامل لنشأة وتطور وتأثير الدعاية والتلاعب بالمعلومات على ميول الناس وتوجهاتهم في الشرق الأوسط خلال العصر الحديث، بما يمكن من خلاله فهم الصراعات الجارية في المنطقة.
بدأ «كينروس» حديثه عن تاريخ الدعاية والحرب المعلوماتية في الشرق الأوسط، بداية من الاحتلال البريطاني للقدس عام 1917, الذي كان بمثابة مشهد إعلامي مجهز بدقة يهدف إلى توجيه الدعم لقضية الحلفاء في المنطقة وخارجها، بالإضافة إلى حشد الموافقة على الاستعمار البريطاني لفلسطين، ثم تطرق إلى أزمة قناة السويس، وكيف نجح الزعيم المصري المرحوم جمال عبدالناصر في مجابهة إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، من خلال الأفلام الدعائية للحرب التي أوضحت قسوة وتدمير العدوان الثلاثي على مصر في 1956, مبينا أثر استخدام دول المنطقة للدعاية على تشكيل الأحداث والتطورات؛ فضلا عن استخدام القوى الخارجية لها كالولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأخرى المتنافسة على ثروات المنطقة بفاعلية، وذلك لمحاولة كسب الدعم للتدخلات العسكرية غير المقبولة، كالغزو الأمريكي للعراق في 2003, وتأسيس منطقة حظر طيران فوق ليبيا في 2011.
وكما يقول المؤلف فإن حرب المعلومات أصبحت سلاحا فعالا للدول والجماعات ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في جميع أنحاء العالم، أكثر من أي وقت مضى. ويرجع ذلك إلى الانتشار السريع للإنترنت في السنوات الأخيرة، وتزايد ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الماضي، والتي تعد بمثابة متغيرات مهمة في تشكيل الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية في الفترة المعاصرة.
ويأتي التأثير الأول للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تزويد الحكومات بمنصة متميزة لنشر حملاتها الدعائية، من خلال قوتها التي ترجع الى استخدامها شبه العالمي، وذلك بخلاف التليفزيون والإذاعة وغيرهما من وسائل الإعلام. وعرض «كينروس» بيانات تدل على الاستخدام الكبير لهذه الوسائل في الشرق الأوسط؛ إذ يوجد في مصر 35 مليون مستخدم نشط على فيسبوك، بحيث تأتي كأكثر دول المنطقة استخداما له، تليها المملكة العربية السعودية بـ11 مليونا، في حين أن الإمارات العربية المتحدة لديها 8.5 ملايين مستخدم أي ما يقارب 99% من السكان. ووفقا لمجلة «ميديم التكنولوجية» فإن «ما يقرب من ثلثي الشباب العربي، أو 63%، قالوا إنهم ينظرون أولا إلى فيسبوك وتويتر للحصول على الأخبار في عام 2018»، وهو ما يدل على مدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في كافة أنحاء المنطقة، واعتماد السكان على الشبكات الاجتماعية لفهم الأحداث الجارية.
وتسمح شبكات التواصل الاجتماعي للحكومات بشن حملات دعائية لكسب دعم الجماهير، وذلك بشكل أكبر من الاعتماد على التليفزيون أو الراديو أو الصحف وحدها. وتشمل الحرب الدعائية الإعلامية استخدام المعلومات للتلاعب بالرأي العام، وفي ذلك توصل تقرير صادر عن «معهد أكسفورد للإنترنت»، عام 2019 بعنوان «القائمة العالمية للتلاعب المنظم في وسائل الإعلام الاجتماعية»، إلى أن «حملات التلاعب بوسائل الإعلام الاجتماعية قد نُظمت في 70 دولة حول العالم؛ 48 دولة عام 2018 و28 دولة عام 2017». وتتمثل أهداف الحكومات في هذا الصدد في تحفيز المواطنين لدعم أعمالها ضد الأعداء والمعارضين، وذلك بنفس فكرة ملصقات الحرب ومقاطع الفيديو والأفلام الخاصة بالحرب الدعائية الإعلامية طوال القرن العشرين، كتصوير دخول بريطانيا إلى القدس، وحملة «ناصر» خلال أزمة حرب السويس عام 1956.
وللتدليل على ذلك في الوقت الحالي قدم «كينروس» مثالا بما حدث خلال «الأزمة الخليجية»، التي بدأت عام 2017 كنتيجة لسلوك قطر الإقليمي؛ حيث رأى أن الأزمة لم تبدأ كمعركة اقتصادية وسياسية فحسب، بل كحرب دعائية، حيث عملت الدوحة على تسخير قوة وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تعزيز سردياتها وكسب التأييد لمواقفها في الداخل والخارج من خلال إنتاج وشن حرب دعائية إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة للتلاعب بالرأي العام وحشد التأييد المحلي والإقليمي والدولي.
وفي عام 2018 خلص تحقيق أجرته «هيئة الإذاعة البريطانية» (BBC) إلى أنه «بعد بدء الأزمة الخليجية، ظهرت هاشتاجات على موقع تويتر في الخليج، ويُفترض أنها تعكس مشاعر شعبية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة، بيد أن غالبية التغريدات التي تستخدم تلك الهاشتاجات تمت عبر حسابات وهمية تحاول التلاعب بالرأي العام من خلال زيادة شعبية منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مصطنع». وتم نشر هذه الدعاية الوهمية من أجل الوصول إلى جمهور أوسع؛ مما يدل على مدى قدرة الحكومات في الشرق الأوسط على تسخير شبكات مثل فيسبوك وتويتر وسناب شات لتدشين وترويج بعض الروايات.
أما التأثير الثاني فيأتي من خلال قدرة الجماعات والأفراد من غير الدول على نشر دعايتهم الخاصة، فلأول مرة على هذا النطاق في التاريخ مكنت وسائل التواصل الاجتماعي كيانات خارج الدولة من الوصول إلى الجماهير من خلال رسائلهم؛ حيث أضحى بمقدور منظمات حقوق الإنسان والنقابات والأحزاب السياسية وغيرها من منظمات المجتمع المدني توسيع مدى وصولها إلى الجماهير لمواجهة الدعاية التي تنتجها الحكومات، وذلك بالنظر إلى عدم حاجتها إلى موارد مالية ضخمة للإنفاق، كما هو الحال مع صناعة السينما أو الإذاعة أو الصحف.
وفي حقيقة الأمر أدى نشر الأخبار المزيفة والتلاعب بوسائل الإعلام والتضليل والادعاءات المنحازة بوضوح من جانب الدول كجزء من حرب المعلومات المعاصرة، كما يقول «راسموس كلايس»، و«لوكاس جريفز»، من معهد «رويترز للصحافة»، إلى «أزمة ثقة واسعة النطاق بين وسائل الإعلام الإخبارية وغيرها من المؤسسات العامة بما في ذلك السياسيون والكثير من العامة في العديد من البلدان. وتنتشر هذه الأزمة بسبب وجود أعداد كبيرة من المواطنين - حتى في البلدان ذات المصداقية العالية - يشككون بشكل كبير في الكثير من المعلومات التي يجدونها في وسائل الإعلام العامة اليوم، سواء تم سماعها من السياسيين، ونشرتها وسائل الإعلام الإخبارية، أو وجدت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبحث عبر الإنترنت.
ووفقا للعديد من المحللين فإن هذا يعني أن تلك البلدان التي كانت في السابق تتمتع بقبضة مشددة على وسائل الدعاية ذات القدرة على توجيه الجماهير من خلال مجموعة من الدعاية، قد فقدت نفوذها، وهو ما يتضح بشكل أفضل من خلال انتشار الاحتجاجات في جميع أنحاء المنطقة، بداية من عام 2011 مع انطلاق ما سُمي بـ«الربيع العربي» في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، فضلا عن ظهورها مؤخرًا في بلدان مثل إيران والعراق والجزائر ولبنان والسودان؛ وهي الاحتجاجات التي كانت مدفوعة بتزايد عدم الثقة في السياسيين والحكومات بشكل عام.
علاوة على ذلك أصبح بمقدور المتظاهرين الآن استغلال ما يسمى بـ«حرب المعلومات» لتحدي مواقف حكوماتهم من خلال تشجيع الآخرين على الانضمام إليهم ومناصرة قضيتهم، واكتساب الدعم الدولي من خلال المشاركات التي ينشرونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تويتر وفيسبوك وغيرهما.
ومن جهة أخرى أدى تآكل سلاح الهيمنة الإعلامية للدولة إلى زيادة قدرة المنظمات المتمردة والإرهابية -بصورة غير مسبوقة- على نشر موادها الدعائية الخاصة بها. وفي هذا الصدد، كتب «سليمان أوزرين»، من مؤسسة «جلوبال بوليسي اند استراتيجي»، أن «الجماعات الإرهابية باتت عنصرًا فاعلاً في الفضاء الإلكتروني، من حيث استخدام ونشر موادها الدعائية عبر الشبكة العنكبوتية، لجذب وتجنيد أعضاء محتملين». ويؤكد «كينروس» على هذه الفكرة من خلال ما مارسه تنظيم «داعش» في العراق وسوريا من حرب دعائية إعلامية، في السنوات الأخيرة، حيث بات التنظيم أكثر الجماعات الإرهابية قدرة على استخدام هذا النوع من الحروب في مواده ومعلوماته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما اعتبره المؤلف «أمرا أساسيا لاستراتيجية التجنيد والتوسع الخاصة به».
يقول «ماه روخ»، في تقرير لمعهد «رويترز»، إن «المنتمين لداعش أكثر بكثير من الأفراد الذين انتموا إلى الجماعات الإرهابية الأخرى، بسبب توظيفهم الجيد للوسائل التكنولوجية، بعكس بعض التنظيمات الإرهابية كتنظيم القاعدة الأقل ميلاً إلى استخدام وسائل الاتصال الحديثة».
وفي النهاية خلص «كينروس» إلى أنه وعلى الرغم من كون بروز وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى جعل سلاح الهيمنة الإعلامية والحرب الدعائية الإعلامية وحرب المعلومات ممارسة ليست حصرية فقط على الدول؛ فإن الدول لا تزال تستخدم تلك الحرب بانتظام لإضفاء الشرعية على تصرفاتها أو الحصول على دعم شعبي، خاصة خلال أوقات الحرب أو الصراع. علاوة على ذلك فإن استخدام «حرب المعلومات» كأداة من قبل الجماعات والجهات الفاعلة من غير الدول، كالمليشيات والمنظمات الإرهابية، سيؤدي إلى خلل بالنسبة الى الأمن الإقليمي والدولي في السنوات القادمة.