12/2/2020
نزاعات غاز شرق المتوسط.. إلى أين؟!
بعد اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز في منطقة شرق المتوسط، أصبحت هذه المنطقة أحد أهم بؤر التنافس والصراع في العالم، فهذه الثروة التي تضيف الكثير إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول التي تفوز بها، هي الأقدر في أقصر فترة زمنية، على معالجة الخلل في الموازين المالية لها، ناهيك عن دورها الاستراتيجي في إشباع الطلب على الطاقة، وزيادة الصادرات. وبدلا من أن تتحول إلى فرصة للتعاون بين الدول المشاطئة، إذ بها تصبح من أهم عوامل تهديد الاستقرار في المنطقة، ويمكن أن نجد خلفية ذلك في الصراعات الممتدة في سوريا، ولبنان، والصراع الإسرائيلي اللبناني، والنزاع التركي القبرصي، والتمدد التركي في ليبيا، وتباين المصالح بين الدول الأوروبية، والتنافس الروسي الأمريكي، واتفاقات مصر مع قبرص واليونان.
ومنذ كشفت المسوح الجيولوجية الأمريكية لمنطقة شرق المتوسط عن اكتشاف كميات من الغاز الطبيعي تقدر بنحو340 تريليون قدم مكعب، وبدأ السباق بين هذه الدول لوضع يدها على هذه الثروة وعلى ما تعتقد أنه نصيبها منها. ففي عام 2009. بدأت إسرائيل في اكتشاف حقل «تمار» بمخزون احتياطي يناهز 9.7 تريليونات قدم مكعب، ثم حقل «داليت» باحتياطي نحو 0.5 تريليون قدم مكعب. وفي 2012 كانت أكبر اكتشافاتها بحقلي «تانين» و«ليفياثان» بإجمالي احتياطي 18.3 تريليون قدم مكعب، في حين بدأت قبرص رحلة اكتشافاتها في عام 2009 بحقل «أفروديت» بإجمالي احتياطي 9 تريليونات قدم مكعب. وفي 2018 اكتشفت إيني الإيطالية حقل «كاليسيو» في المنطقة المتنازع عليها بين قبرص وتركيا.
وفي الوقت الذي أخذت فيه الدول المشاطئة الأخرى تبحث عما لها في هذه الثروة، شهد عام 2015 اكتشاف مصر لحقل ظُهر الذي يعد أكبر اكتشاف في هذه المنطقة حتى ذلك الوقت، وهو يقع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لها، ويبعد نحو 150كم عن ساحلها باحتياطي 30 تريليون قدم مكعب.
في هذا الوقت بدأت تظهر كثير من الدلالات الاستراتيجية لهذا التطور أهمها:
- إمكانية التحول في اعتماد أوروبا من الغاز الروسي إلى غاز شرق المتوسط.
- أن هذه الدول التي كانت مستوردا أساسيا للطاقة تتجه إلى أن تكون مصدرا لها بعد إشباع احتياجاتها المحلية منها.
- أن هذه الاكتشافات غدت تؤثر على الوضع التنافسي لكبار مصدري الغاز، وعلى رأسهم روسيا وإيران وقطر.
وضمانا لتحقيق استقرار الأوضاع والحقوق القانونية، كان لا بد أن تسارع الدول المُكتشفة إلى حل نزاعاتها الحدودية وتقوم بترسيم الحدود بينها وبين الدول الأخرى، حتى يمكنها بهذا التعاون أن تتحول إلى لاعب رئيسي في سوق الطاقة العالمي، خاصة وأن هذه الاكتشافات تزيد من الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط صاحبة النسبة الأكبر في احتياطيات النفط والغاز العالمية، خاصة مع انفتاح البحر المتوسط على تقاطعات آسيا وأوروبا وإفريقيا، واتصاله بطرق التجارة العالمية، فإذا ما أمسكت هذه الدول عن التعاون، فإنها ستزيد من حدة الصراع على استغلال هذه الثروات وحصص الأسواق وطرق التصدير.
ومع ذلك، فقد جاءت هذه الاكتشافات لدول لم تكن مستعدة قانونيًا، فقد كان ترسيم الحدود معلقًا كما أن بعضها كان غير مؤهل من حيث البنية التحتية أو الكلفة أو الفرص الاقتصادية للاستفادة من استخراج الغاز ونقله وتسويقه، وليس لدى كثير منها سوق محلية كافية لاستيعاب الإنتاج. وللتعامل مع هذا الوضع وقعت حكومتا قبرص ولبنان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في 2007. كما فعلت ذلك إسرائيل مع قبرص في 2010 لتحديد المنطقة الاقتصادية الخاصة بكل منهما، وفي فبراير 2013 وقعت مصر مع قبرص اتفاقية مماثلة، إلا أنه رغم هذه الاتفاقيات، ووجود قانون دولي للبحار فقد أخذ التوتر في التصاعد مع وجود مشاكل إقليمية دون حل، ومع ادعاء تركيا لحقوق لها في قبرص التركية، ومع التنافس اللبناني الإسرائيلي على استغلال الموارد البحرية.
وبدايةً، أعلنت تركيا رفضها اتفاقيات ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، وبين قبرص وإسرائيل، مدعية أنه لا يحق لحكومة قبرص توقيع تلك الاتفاقيات، في ظل عدم الاتفاق على تسوية مشكلة قبرص الشمالية، وبقاء الانقسام على ما هو عليه من عام 1974. كما ذهبت إلى أنها ستقوم بالتنقيب على النفط والغاز في شرق المتوسط، وهددت شركات التنقيب حال قيامها بالعمل في المنطقة البحرية قبالة قبرص، بل إن الجيش التركي اعترض في فبراير 2018 سفينة حفر كانت في طريقها من موقع في جنوب قبرص إلى موقع جنوب شرقها، وهدد «أردوجان» باستخدام القوة العسكرية.
ومن جانبها، ردت اليونان على هذا التصعيد، بأن لديها القدرة دبلوماسيًا وعسكريًا إذا حاولت تركيا توسيع حدودها البحرية، في الوقت الذي اتهمت فيه قبرص، تركيا بأنها تستخدم القوة لمنع شركة «إيني» الإيطالية من التنقيب في مناطقها، ووقفت «برلين» إلى جانب قبرص واليونان في مواجهة الاستفزازات التركية، وألغى الاتحاد الأوروبي اجتماعا كان مقررًا عقده مع الرئيس التركي في مارس 2018 معلنًا تضامنه مع الدولتين، ودعا أنقرة إلى البعد عن التهديدات والامتناع عن أي تصرف يضر حسن الجوار. وفي نفس الوقت حذرت مصر في فبراير 2018 من أي محاولة للمساس بسيادتها في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها في شرق المتوسط، في حين عززت علاقاتها مع اليونان وقبرص بهدف تحقيق الاستغلال المشترك للغاز، واتجهت القاهرة إلى أن تكون مركزًا إقليميًا للصناعة الغازية في شرق المتوسط مستفيدة من البنية التحتية التي كانت قد أقامتها بتسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا.
وإضافة إلى توتر العلاقات الذي كانت تركيا طرفًا فيه بشكل أساسي؛ ظل هذا الغاز سببًا آخر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ففي عام 2000 كانت شركة «بريتش بتروليم» قد اكتشفت قبالة سواحل غزة كميات من الغاز قدرت بحوالي 30 مليار قدم مكعب، وعرقلت إسرائيل استخراجه، فضلا عن وضع يدها على النفط الموجود في الأراضي الفلسطينية والذي بدأت التنقيب عنه عام1970 وزادت بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 1993. وبعد اكتشاف حقل غزة قامت السلطة الفلسطينية بتوقيع اتفاقية التنمية والتنقيب لمدة 4 سنوات مع عدد من الشركات، ولكن إسرائيل أرادت التحكم في مسارات تدفق الغاز، ليكون لها أولا، واشترطت الشراء بأسعار أقل من المعدلات العالمية، وهو ما رفضته هذه الشركات. وفي يونيو 2013 بدأ إنتاج الغاز من حقلي «نوح» و«ماري» قبالة سواحل غزة، وشهدت مباحثات بوتين وعباس في يناير 2014 التوقيع على اتفاق إطاري لاستخراج الغاز من حقول غزة مارين.
أما الصراع الإسرائيلي اللبناني بشأن الغاز فيدور حول المنطقة المسماة «بلوك 9»، التي اكتشف فيها الغاز عام 2009 وتبلغ مساحتها 860 كم2. وطرحت لبنان الاستثمار للتنقيب فيها عام 2018. وتصاعد نزاع البلدين حتى وصل أروقة الأمم المتحدة مع تعدد وساطات دولية لحله، خاصة في ظل عدم وجود اتفاقية ترسيم حدود بحرية بينهما. ورفض لبنان اتفاقية ترسيم الحدود القبرصية الإسرائيلية. فيما زودت إيران حزب الله اللبناني بالصواريخ لمواجهة أي عمليات إسرائيلية للتنقيب في هذه المنطقة، وأعطى مجلس الدفاع اللبناني في فبراير 2018 الغطاء السياسي لاستخدام القوة العسكرية في هذا الشأن، بينما وصفت إسرائيل خطوة لبنان منح امتيازات التنقيب لتحالف شركات نفطية عالمية بأنه سلوك استفزازي.
وإلى غاز شرق المتوسط، يمكن تفسير أحد الأسباب الاستراتيجية لتغلغل روسيا في الشأن السوري، فسوريا صاحبة ساحل طويل في شرق المتوسط، ولم توقع اتفاقات ترسيم حدود بحرية مع كل من لبنان وقبرص وتركيا، وفي الوقت نفسه فإن روسيا تزود أوروبا بنحو40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وتملك بذلك ميزة استراتيجية يصعب أن تتنازل عنها في صراعات القوى الكبرى، ولهذا فهي تستخدم وجودها في سوريا كي تكون لاعبًا كبيرًا في غاز شرق المتوسط، الذي يمكن أن تحول جزءا كبيرا منه إلى المسارات التي تمد بها أوروبا، ولهذا فقد وقعت في ديسمبر 2014 اتفاقية مع سوريا للتنقيب والحفر بالقرب من الساحل السوري، ليكون لها بذلك موطئ قدم على بوابة آسيا وأول طريق الحرير.
وإذا كان الحال كذلك، فإن التفاؤل الذي أحاط باكتشافات غاز شرق المتوسط، قد أخذ في التبدد، ليحل محله تشاؤم متصاعد، يضع هذه الثروة في مقدمة عوامل تأجج الصراعات في هذه المنطقة، فبعد أن بادرت مصر بإنشاء منتدى غاز المتوسط الذي يضم إسرائيل والأردن وممثلين عن المناطق الفلسطينية وإيطاليا واليونان وقبرص ورحبت الولايات المتحدة بهذه المبادرة، فإن أنقرة التي تستورد 99% من احتياجاتها من الغاز و94% من احتياجاتها النفطية، أخذت تبحث عن تلبية جزء من هذه الاحتياجات عبر اغتصاب جانب من ثروات هذه المنطقة، وبدأت سفنها عمليات التنقيب قبالة قبرص دون موافقتها، في محاولة رفضتها معظم دول العالم، بل فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على تركيا حتى تتراجع عن هذا السلوك.
وبدلا من ذلك، لجأت تركيا إلى توقيع اتفاق مع الحكومة الليبية في طرابلس يتم بمقتضاه ترسيم حدود الجرف القاري بين البلدين، ما أثار استياء دول المنطقة التي وجدت في هذا التصرف انتهاكًا صريحًا للقانون البحري الدولي، خاصة أن تركيا تجاهلت أن شواطئ جزيرة كريت التي تقع في المنطقة بينها وبين ليبيا هي أراضٍ يونانية.
وعليه، يعد الاتفاق الليبي التركي مسارا آخر لدخول تركيا على خط الصراع الإقليمي من البوابة الليبية، كما يعد توسع تركيا في سوريا مسارًا ثالثًا لهذا التوجه، إلا أن الخطوة التركية تجاه طرابلس المرفوضة إقليميًا وفاقدة الشرعية محليًا من الجانب الليبي، قد زادت في التوتر القائم في العلاقات المصرية التركية، وبينما عززت الأخيرة وجودها العسكري المباشر وغير المباشر في ليبيا، وأعلنت مصر أن هذا الوجود يشكل خطرًا على أمنها القومي.
وإلى هذا تبدو الحاجة إلى تدخل الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة لوقف التصاعد في نزاعات شرق المتوسط وإعمال القانون الدولي، ودعوة الأطراف المتنازعة إلى صيغ تصالحية تحقق الاستثمار الآمن والمنافع المشتركة للدول المشاطئة، بدلا من الدخول في صراعات لا تلوح في الأفق نهاية قريبة لها.