4/2/2020
الرئيس الفرنسي «ماكرون».. ورجال الأمن الإسرائيلي
شهدت زيارة الرئيس الفرنسي، «إيمانويل ماكرون» للأراضي الفلسطينية، ولكنيسة القديسة «سانت آن» في القدس المحتلة يوم 22 يناير، مشادة كلامية مع الأمن الإسرائيلي؛ وذلك إثر محاولتهم مرافقته داخلها، وشُوهد وهو يقوم بتأنيبهم قائلا: «لا يعجبني ما فعلتم أمامي، لا أحد يجب أن يُستفز، فالكل يعرف القواعد، وهي ثابتة منذ قرون ولن تتغير معي». وكان «ماكرون» قد ذهب إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن أكثر من 40 رئيس دولة من مختلف دول العالم، لحضور فعالية كبرى لإحياء ذكرى مرور75 عاما على تحرير معسكر «أوشفيتز»، الذي أقامه النازيون في بولندا، وقتل فيه أكثر من 1.1 مليون شخص معظمهم من اليهود كما تقول التقارير.
ويعود تاريخ كنيسة القديسة «آن»، إلى عام 1138. وتنتمي إلى الحكومة الفرنسية، وتعتبر أرضها فرنسية منذ القرن الثاني عشر عندما بناها الصليبيون، وسمح السلطان العثماني لنابليون الثالث برفع العلم الفرنسي عليها عام 1856. وذلك كجزء من امتنان السلطان لفرنسا إثر مساعدته في حرب القرم.
ومن جانبها، قالت المتحدثة باسم قصر الإليزيه لـCNN إن: «الكنيسة تعود إلى فرنسا، وحماية مثل هذه الأماكن مسؤوليتها، ورجال الأمن أرادوا الدخول بينما كانت قوات الأمن الفرنسية تقوم بدورها». وفي محاولة لتحسين وجهها، قالت «وكالة الأمن الإسرائيلية»: إن «الرئيس ماكرون اعتذر عن الحادث بمجرد اختتام الوفد زيارته للكنيسة»، لكن الوفد المرافق له نفى حدوث ذلك، قائلا: «لم نشهد تلك اللحظة». ونقلت صحيفة «هآرتس»، الإسرائيلية، نفى المسؤولون الفرنسيون هذا الاعتذار وأنه «لم يكن هناك أي اعتذار، وتدخل الرئيس كان لتذكير الجميع بالقوانين التي يجب أن تُطبق والتي انتهكتها قوات الأمن الإسرائيلية».
ووفقا للعديد من المراقبين، فإن ما حدث من رجال الأمن الإسرائيلي مع الرئيس الفرنسي، ما هو إلا نوع من العنجهية الصهيونية، التي تتحدى قواعد القانون الدولي؛ وهو ما أكدت عليه وسائل الإعلام العربية بالقول: «إن صورة مضايقة قوات الأمن الإسرائيلية للرئيس ماكرون كانت واضحة للعالم، وتعكس همجية إسرائيل كدولة لا تقيم وزنا للقانون الدولي، وقد أبدى الرئيس رفضه لهذه الإجراءات ليشاهدها العالم مباشرة».
وتأتي هذه الحادثة على خلفية عدم اعتراف باريس بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية «التي تضم الكنيسة»، واعتبارها أرضا محتلة، وهو الأمر الذي يشاركها فيه عدد من الدول، لكن فرنسا تعد هي الأكثر وضوحا في معارضتها لقرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، واعتبار ذلك قرارا «غير حكيم». وتشير في الوقت ذاته إلى واقع السياسة الإسرائيلية، ومحاولتها إرسال الرسائل إلى كل معارضي سياستها الاستيطانية والعدوانية وهي أن أي دولة أو مسؤول يعارض -ولو لفظا- قرارا أو سياسة إسرائيلية، سيلقى منها الاذدراء والصلف والاستفزاز.
وأعادت الواقعة إلى الأذهان مشهدا مشابها للرئيس الفرنسي الراحل، «جاك شيراك» في تسعينيات القرن الماضي خلال زيارته للكنيسة نفسها عام 1996. إذ قام أفراد الأمن الإسرائيلي بدفع الصحفيين والوفد المرافق له، فيما وُجد أفراد منهم يحملون أسلحة في داخل الكنيسة، وهو ما استفز الرئيس «شيراك»، الذي تساءل غاضبا: «ماذا تريدون»؟ هل تريدون أن أعود إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟ واصفا ما حدث بأنه «محاولة دنيئة». ويأتي ذلك على خلفية موقفه المعارض لسياسات إسرائيل والمؤيد والداعم لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس على حدود الرابع من يونيو - حزيران عام 1967. حتى إنه أول من تعامل مع «ياسر عرفات» كرئيس دولة، واستقبله في قصر الإليزيه بهذه الصفة، وحين مرض، سَخر شيراك قدرات بلاده الصحية لإنقاذ حياته، بعدما نقل من رام الله إلى أحد مستشفيات باريس، وبالتالي فإن السبب الذي دفع لاستفزاز «ماكرون» هو ذات السبب الذي دفع لاستفزاز «شيراك».
وكان الصلف الإسرائيلي حاضرا حتى مع بريطانيا صاحبة الفضل على إسرائيل في تأسيس دولتها من خلال وعد «بلفور» 1917. فلم يسلم وزير خارجيتها الأسبق، «روبين كوك»، من استفزازها، أثناء زيارته لها عام 1999. حيث أطلقت إسرائيل على «كوك» حناجر المستوطنين تندد به وتهاجم موكبه، وتسبب له الكثير من المضايقات، فيما ألغى رئيس وزرائها، «نتنياهو» مأدبة غداء كانت مقررة له، علاوة على المغادرة من دون مراسم التوديع في المطار، في تحدٍ واضح للأعراف الدبلوماسية. وبحسب وصف «صحيفة التايمز»، «عاد كوك من زيارته غاضبا وجائعا».
وكان ذلك احتجاجا على زيارة «كوك» لموقع مستوطنة «أبوغنيم» التي تم إنشاؤها في القدس، ورفضه لسياسة الاستيطان، واعتبارها «غير مشروعة ومخالفة للقانون الدولي»، وهو ما أدى إلى شن إسرائيل حملة شعبية وسياسية مخالفة للأعراف الدبلوماسية بغرض استفزازه، لكنه كان حكيما في التصرف ولم يستفز، وهو ما جعل معظم دول الاتحاد الأوروبي تدعم موقفه، وتعتبر أن ما حدث إهانة مرفوضة من دول الاتحاد ويدل على همجية في تعامل إسرائيل وأجهزتها المختلفة مع كل زائر يعارض سياساتها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالتصرفات الإسرائيلية الرافضة لأي محاولة لمنح الشعب الفلسطيني حقه في العيش بسلام واستقرار حتى على جزء من أرضه المحتلة، لم تتوقف عند الاستفزاز فحسب، بل إن التاريخ يشهد على حوادث اغتيالات لمسؤولين أوروبيين ودوليين، حاولوا التوصل إلى حلول تقترب من العدالة، مثل: اغتيال اللورد البريطاني «موين»، والكونت السويدي «فولك برنادوت».
فالأول كان وزير الدولة لمستعمرات بريطانيا في الشرق الأوسط، وقد أوكلت إليه الحكومة البريطانية التصرف المطلق دون الرجوع إليها في مجموعة من أصعب وأعقد المشكلات خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وعندما وجدت المنظمات الصهيونية أن «موين» لن يكون مطية لأهوائها فيما يتعلق بموضوع فلسطين، حيث كان يرى أنها لا يمكن أن تمثل الحل لمشكلة اليهود المشردين، وأن عليهم أن يبحثوا لهم عن أرض جديدة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لأنها المسؤولة عن تشريدهم وهي التي يجب أن تدفع ثمن ذلك، قرروا اغتياله وهو ما حدث في 6 نوفمبر 1944.
أما «فولك برنادوت»، فقد اختارته الأمم المتحدة كأول وسيط دولي لها في مايو 1948. للنظر في عدالة قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1947. وذلك إثر وقوع مواجهات عسكرية عربية إسرائيلية، واستطاع تحقيق الهدنة بين طرفي النزاع في 11 يونيو 1948. وهي الهدنة التي كان قبولها من الجانب العربي بمثابة انتصار لإسرائيل، واعتراف بوجودها كدولة وإن لم يكن اعترافا صريحا؛ لكن ما إن قدم «برنادوت» مقترحات لحل القضية بصورة تقترب من العدالة للشعب الفلسطيني، لعل أهمها وضع الهجرة اليهودية تحت تنظيم دولي حتى لا تتسبب في زيادة المخاوف العربية، وبقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية مع منح الطائفة اليهودية في القدس استقلالا ذاتيًا في إدارة شؤونها الدينية، إلا وأثارت حفيظة الإسرائيليين فخططوا لاغتياله، وهو ما تم في 17 سبتمبر1948 في القطاع الغربي لمدينة القدس.
يتضح مما سبق؛ أن الصلف الإسرائيلي وتحدي قواعد القانون الدولي، كان حاضرا إزاء أي مسؤول أو دولة، مهما كانت قوتها، ومهما كان قربها في علاقاتها مع إسرائيل، طالما أبدى أحد مسؤوليها أي اعتراض على المشروع الصهيوني، المتمثل في طمس الهوية الفلسطينية للأرض المحتلة، سواء من خلال الاستفزاز أو من خلال عمليات الاغتيال التي نفذتها العصابات اليهودية.
على العموم؛ إن هذه الشواهد تؤكدا أن إسرائيل لن تقبل بأي حل يسعي لتحقيق بعض العدالة للشعب الفلسطيني، وتستغل المفاوضات ومبادرات السلام كوسيلة لكسب الوقت، وجعل السيطرة على الأراضي الفلسطينية بمثابة أمر واقع؛ كما أنها لا تجد غضاضة في معاداة أي دولة تحاول معارضة هذا المشروع، حتى وإن كانت الأكثر قربا لها.