1/2/2020
التداعيات الاقتصادية لانتشار فيروس «كورونا»
أصبح العالم في حالة ذعر جراء تفشي فيروس كورونا، وخاصة مع الصعوبة البالغة في السيطرة على انتقالات البشر، فلن تستطيع أي دولة أن تغلق منافذها 100%، وربما يكون لهذه الحالة النفسية تأثير أكثر ضراوة من الفيروس نفسه؛ إذ بدأ إنتشار الفيروس في الصين -أكبر دول العالم سكانًا «1.4 مليار نسمة»، والمحرك الرئيس للاقتصاد العالمي، كما أن العديد من المنتجات المتداولة في الأسواق إما صينية وإما تدخل مكونات صينية في إنتاجها- فأصبحت المخاوف الاقتصادية من التداعيات المترتبة على هذا الفيروس مضاعفا رئيسا لحالة الركود التي سببتها الحرب التجارية الأمريكية الصينية، ولهذا دفعت أنباء انتشار الفيروس في الآونة الأخيرة مؤشرات الأسهم الرئيسة إلى الانخفاض.
وفيروسات كورونا هي مجموعة من الفيروسات التي تسبب التهابات الجهاز التنفسي؛ حيث يعرف الفيروس باسم (Co V-2019)، والتحليل الذي قام به فريق من معهد ووهان الصيني للفيروسات يقول إن جينوم هذا الفيروس مطابق بنسبة 96% لتحليل فيروس كورونا الخفافيش، ما يشير إلى أن هذه الحيوانات هي المصدر الأصلي للفيروس، وهو ما ورد أيضًا في مجلة «نيوانجلند» البريطانية الطبية وقد نشرته يوم 24 يناير 2020، وأشارت مجموعة أخرى من علماء الصين إلى أن فيروس كورونا مطابق بنسبة 86.9% لفيروس كورونا الشبيه بمرض السارس، وينتشر الميكروب عن طريق السعال أو العطاس أو اللمس أو التنفس، وتصل فترة حضانته إلى 14 يومًا، ويمكن أن تنتقل العدوى خلالها، كما قد يتسبب في الوفاة من المضاعفات التي تصل إلى الالتهاب الرئوي.
على أي حال فإن هذا المرض الفيروسي الجديد، الذي تم تحديده لأول مرة في مدينة «ووهان» الصينية يستمر انتشاره بسرعة، حيث بلغ مجموع حالات الإصابة المؤكدة 2700 حالة حتى 27 يناير معظمها في البرّ الرئيس للصين، وتم تحديد حالات إصابة أخرى في هونج كونج وتايلاند وماكاو وأستراليا وتايوان وأمريكا واليابان وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وفرنسا وفيتنام وكمبوديا ونيبال وكندا، وإن كانت حالات محدودة تعدّ على أصابع اليدين، إلا أن منظمة الصحة العالمية صرَّحت في تقريرها يوم 27 يناير بأن الفيروس الجديد أصبح مرتفعًا على المستوى الدولي، ومرتفعا جدًّا في الصين، غير أن المنظمة تمهلت في إعلان حالة الطوارئ العالمية، كما حدث قبل ذلك مع حالة إنفلونزا الخنازير في 2009، وفيروس زيكا في 2016، وإيبولا في 2014 و2016 و2018، وأعلنت الصين أول حالة وفاة في العاصمة بكين جراء الإصابة بالفيروس الجديد لرجل كان في زيارة لمدينة ووهان التي انطلق منها الوباء وارتفع الرقم المعلن لحالات الوفيات بعد ذلك إلى 80 حالة حتى 27 يناير؛ حيث فرضت السلطات سلسلة قيود على التنقلات في كامل أراضيها في محاولة منها للسيطرة على تفشي الوباء، وأغلقت تمامًا مدينة ووهان التي يعيش فيها أكثر من 11 مليون نسمة، أصبحوا منقطين تمامًا عن العالم، وغدت محلاتها التجارية، وحركة السير غير الضرورية ممنوعة، كما علَّقت بكين خدمات الحافلات التي تقوم برحلات طويلة من وإلى العاصمة.
ومع تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني متأثرًا بالحرب التجارية مع أمريكا؛ حيث حقق في 2019 أسوأ معدلات نموه في ثلاثة عقود، فالصين التي انطلق منها هذا الوباء تعدّ بؤرة التهدد بالتداعيات الاقتصادية السلبية بسبب المخاوف التي تتعرض لها حركة النقل والسياحة والتجارة، ومددت الحكومة، في محاولة منها للتحكم في انتشار الوباء، عطلة العام القمري الجديد «تبلغ أسبوعا»، وأغلق المزيد من الشركات الكبرى أبوابه، كما طلب العديد من الموظفين العمل من المنزل، ومن الجدير بالذكر أن عدّة دول مجاورة لها تعتمد في نشاطها الاقتصادي على حركة السياحة الوافدة منها.
ويبدو التأثر الأكبر للاقتصاد الصيني جراء انتشار هذا الوباء في الربع الأول من العام الحالي؛ بسبب تأثر حركة الاستهلاك والنمو والصناعة، وإلغاء الاحتفالات برأس السنة الجديدة، وفرض عزل غير مسبوق على 40 مليون شخص في مقاطعة هوبي، فيما فرضت هونج كونج وماكاو حظرًا على دخول القادمين من هذه المقاطعة إليهما، أما مدينة هايكو الواقعة بجزيرة هاينان جنوبًا فأقرَّت وضع السياح القادمين من مقاطعة هوبي التي كثرت فيها الإصابة بالفيروس في الحجر الصحي لمدة 14 يوما، وأجّلت مدينة شوزو، أحد أكبر مراكز الصناعة في الصين، وتوجد بها مصانع جونسون آند جونسون وسامسونج، عودة ملايين العمال إلى العمل بسبب تفشي الفيروس، ومحاولة احتواء هذه التداعيات الاقتصادية السلبية، التي أعلنت لجنة تنظيم المصارف والتأمين الصينية اتخاذ خطوات لمساعدة الشركات المتضررة، كخفض أسعار الفائدة على القروض، وتحسين سياسات تجديد القروض وزيادتها، ولأول مرة في 2020 تنخفض أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارًا للبرميل، بعدما حذرت السلطات من زيادة تفشي الفيروس المميت.
وأصبحت السياحة دعامة رئيسة للاقتصاد الياباني في العقد الأخير، حيث يمثل السياح الصينيون إلى اليابان أهمية خاصة إذ يعدون الأكثر إنفاقًا، لذلك فإن العديد من خبراء الاقتصاد الياباني حذروا من مخاطر تفشي المرض بالفيروس على الاقتصاد الياباني، وهي مخاطر أكثر ضراوة مما أحدثه تفشي وباء السارس في 2003، وفي السبت 25 يناير 2020 فرضت الصين حظرًا على الرحلات الخارجية، وإذا استمر تراجع زيارات الصينيين لليابان بنفس الوتيرة التي تراجعت بها خلال انتشار السارس، فإن معدل النمو للاقتصاد الياباني سيتراجع بنسبة 2.10%، وإذا استمرت الأزمة مدة عام فإن معدل التراجع لنمو الاقتصاد الياباني قد يصل إلى 0.45%، وعلى خلفية أنباء تفشي أزمة كورونا تراجعت بالفعل الأسهم اليابانية في بورصة طوكيو محققة أكبر خسارة لها في 5 شهور، وتراجع مؤشر نيكي القياسي بنسبة 2.03%، كما تراجع مؤشر توبكس بنسبة 1.61%، وتراجعت أسهم شركات الطيران، فيما ارتفعت قيمة أسهم شركات إنتاج الملابس الواقية وأجهزة المستشفيات.
ومع انتقال العدوى إلى سنغافورة، التي سجلت في عام 2019 أقل معدلات نموها في 10 سنوات (0.7%)، أعلن وزير تجارتها توقَّع تأثر قطاعات الأعمال والمستهلكين، ما يتعين معه على الحكومة اتخاذ إجراءات لدعم أكثر القطاعات تضررًا وفي مقدمتها السياحة؛ حيث يمثل الصينيون أكبر أعداد الزائرين لسنغافورة، فهناك أسر عديدة في سنغافورة من أصل صيني ويقومون بزيارة أقاربهم خلال العطلات، ولهذا فإن قوة العمل التي شكلتها سنغافورة ألزمت الموظفين والتلاميذ الذين سافروا إلى الصين أن يلزموا منازلهم مدة أسبوعين، وطلبت من الذين ينوون السفر تأجيله.
وشددت تايوان القيود المفروضة على الزوار القادمين من الصين، ومنعت زيارة المجموعات السياحية القادمة منها، وحظرت على جميع القادمين من مقاطعة هوبي دخولها في الوقت الراهن، وشكَّلت مركز قيادة مركزية للسيطرة على الوباء، ما أجَّل عودة الطلاب الذين يدرسون في تايوان إلى ما بعد 9 فبراير، أما ماكاو التي يعتمد جزء كبير من اقتصادها على أنشطة المقامرة، وبها أكبر مراكز هذه الأنشطة في العالم، فإن تفشي الوباء يهدد هذه المراكز بالإغلاق، حيث تراجع بالفعل عدد القادمين الصينيين إلى ماكاو بنسبة 80% في 26 يناير، وهو ثالث أيام عطلة رأس السنة القمرية مقارنة مع العام الماضي.
ولم يكن الروبل وسوق الأوراق المالية الروسية بمنأى عن التأثر بانتشار الوباء؛ حيث تأثرت سوق الأوراق المالية الروسية، وتراجعت مؤشراتها بوتيرة سريعة يوم 27 يناير، وتراجع الروبل أمام العملات الصعبة، وتوقع خبراء أن خسارة الاقتصاد السياحي الروسي قد تزيد بعد أن أعلنت غالبية شركات السياحة وقف رحلاتها إلى الصين، ويقدَّر عدد السائحين الروس الذي كان من المزمع زيارتهم للصين بـ45 ألف سائح، وتعدّ الصين واحدة من 10 وجهات مفضلة للسياحة الروسية، وفي العام الماضي في الفترة من يناير حتى سبتمبر زارها 1.6 مليون سائح روسي.
وفيما تتابع بلدان العالم التي يعتمد اقتصادها على صادرات النفط انتشار هذا الوباء، وآثاره المحتملة على حالة الاقتصاد العالمي ومعدلات النمو والتجارة، ومن ثم الطلب على النفط، وخاصة مع العوامل النفسية التي تفاقم هذه الآثار، فإنها تحذر أيضًا من المضاربة التي قد تقود أسعار النفط إلى الانخفاض، بالترويج؛ لأن الأثر المباشر لانتشار الوباء هو التباطؤ، ومن ثم انخفاض الطلب على النفط، مدللين على ذلك بالهبوط الفعلي لأسعار النفط دون الـ60 دولار للبرميل لأول مرة منذ بداية العام، حتى ليلة 28 يناير انخفض خام برنت بنسبة 3.2% ليصل إلى 58.75 دولارا للبرميل، وهو أدنى مستوى له منذ أواخر أكتوبر 2019، وتراجع الخام الأمريكي بنسبة 3.3% إلى 52.42 دولارا للبرميل، غير أن التأثير المحتمل لانتشار الوباء على سوق النفط يأتي نتيجة التباطؤ أو الإخفاق في السيطرة، ما يستدعي من الأوبك وحلفائها إعادة النظر في كمية الإنتاج التي يتم حجبها عن السوق لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، وهو الذي سيكون البند الأول على جدول أعمال الاجتماع الوزاري لهذه المجموعة في مارس المقبل، كما ستكون هناك حاجة إلى التعاون بين هذه المجموعة ومنتجي النفط الصخري؛ لأن معظم الزيادة المتوقعة لإمدادات النفط في 2020 تأتي من هؤلاء المنتجين، فإذا لم يتم التنسيق مع هؤلاء فإن السوق النفطي سيشهد من جديد حالة تخمة في المعروض تفوق الطلب المتأثر بعاملين، هما الحرب التجارية وفيروس الكورونا.