24/1/2020
آلية «فض النزاع».. سلاح أوروبا للحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني
اتخذت بريطانيا وفرنسا وألمانيا خطوة غير مسبوقة يوم 14 يناير2020 بإطلاقها آلية «فض النزاع» الواردة في خطة العمل الشاملة المشتركة، جراء قيام إيران بانتهاكات أخرى لبنود الاتفاق النووي، وتخصيب نسبة أكبر من اليورانيوم تتجاوز ما قامت به قبل توقيع الاتفاق عام 2015 رغم وجود محاولات متكررة من جانب الدول الأوروبية لاحتواء التوترات المتصاعدة بين طهران وواشنطن، وصرح وزراء خارجية الدول الثلاثة في بيان مشترك بأن الهدف من هذه الآلية «هو الحفاظ على الاتفاق النووي على أمل إيجاد طريق مشترك، وأنه بالنظر إلى التدابير المتخذة من جانب إيران فليس لدينا خيار آخر».
وتأتي هذه الآلية في البندين (36) و(37) من الاتفاق النووي؛ وتتلخص في أنه «في حال رأى أحد الطرفين أن الآخر يخل بالتزاماته، فيمكن أن يحيل الأمر للجنة المشتركة التي تضم الدول الأطراف في الاتفاق لتنظر فيه خلال 15 يوما، وإذا لم يُحل الأمر، يُحال النزاع إلى وزراء خارجية الدول الموقعة على الاتفاق، وإن تعذر ذلك يُحال الأمر لمجلس الأمن ليقرر ما إذا كان يستمر الاتفاق أم يلغى، ويعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، كما كان الحال قبل الاتفاق».
من جانبها، اعتبرت إيران أن هذا الإعلان جاء بضغط من الرئيس الأمريكي، «دونالد ترامب»، الذي انسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018 وخاصة أنه قام بتهديدها قبل أيام من الإعلان عن الآلية بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على صادرات السيارات الواردة من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إذا لم يتخذوا أي إجراء ضد طهران في المستقبل القريب. وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الإيرانية «جواد ظريف» بقوله: «تأكد لنا الرضوخ والإذعان الأوروبي كرد فعل على تهديدات ترامب». وعلق الرئيس الإيراني «حسن روحاني» بأنه: «إن كان الجندي الأمريكي اليوم في خطر، فغدا قد يكون الجندي الأوروبي في خطر».
ووفقا للعديد من المحللين فإن أوروبا وضُعت في مأزق كبير -قبل وبعد الإعلان عن هذه الآلية- فهي تواجه ضغوطا كبيرة من كل من إيران وأمريكا، نتيجة محاولاتها للتواؤم مع مواقف كلا البلدين، وخاصة مع استمرار تصاعد الأعمال العدائية في الشرق الأوسط وخارجه. ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن تطبيق آلية فض النزاع قد يفضي إلى إعادة الولايات المتحدة وإيران إلى طاولة المفاوضات، ومن ثمّ، عودة الاتفاق، يرى آخرون أنها قد تمثل خطرا كبيرا، بالنسبة إلى مدى مقدرة الدول الأوروبية على إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ربما تدميرها نهائيًا.
ويعتقد أصحاب الرأي الأول أن قرار الدول الأوروبية الثلاثة باتخاذ موقف حاسم تجاه طهران مع الاستمرار في العمل ضمن الاتفاق النووي سوف يعمل على تعزيزه. واعتبرت «إيلي جيرانمايه»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أن «الضغوط التي تمارسها الدول الأوروبية سوف تدفع إيران في النهاية إلى التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد، في ضوء أن آلية فض النزاع تضيف زخما سياسيا للجهد المبذول بشأن التفاوض؛ أو على الأقل إقناع إيران بتجميد أنشطتها النووية، وعدم انتهاك بنود الاتفاق، وذلك من خلال الحزمة الاقتصادية المطروحة في آلية فض النزاع».
أما أصحاب الرأي الآخر فيرون أن إيران وأمريكا من غير المحتمل أن يتفاوضا بشأن اتفاق نووي جديد في المستقبل القريب؛ وخاصة مع التصعيد الأخير للأعمال العدائية بينهما وبلوغها ذروتها بعد مقتل قائد فيلق القدس «قاسم سليماني» في غارة أمريكية، والهجمات الصاروخية الإيرانية على القواعد العسكرية الأمريكية. علاوة على ذلك فإن الضغط الأوروبي -من خلال آلية فض النزاع»- لن تقنع إيران بالموافقة على المحادثات مع أمريكا إذا لم يكن ترامب مستعدا لتخفيف موقفه من القضايا الإقليمية وسياسة الضغط الأقصى، وهي نتيجة غير محتملة بسبب أنه سوف يواجه انتخابات رئاسية في نوفمبر المقبل.
ومع ذلك يُمكن للانتخابات الرئاسية الأمريكية في حد ذاتها أن تجعل إطلاق آلية «فض النزاع» مخاطرة تستحق المحاولة بالنسبة إلى الدول الثلاثة. يقول «جاريت بلانك» من «مؤسسة كارينجي للسلام الدولي» «من الواضح أن آلية فض النزاع ليست تخليا أوروبيا عن الاتفاقية، ولكن تخليا عن بذل جهد في الوقت الحالي للتفاوض على استبدال الخُطة، من خلال الحفاظ على جزء من الصفقة كمنصة محتملة لبذل جهد دبلوماسي في مرحلة مستقبلية، تكون فيها واشنطن وطهران أكثر استعدادًا للجلوس على الطاولة».
ويخدم تفعيل آلية «فض النزاع» هذا الهدف من خلال إضفائه الطابع المؤسسي على الخلاف بين الدول الثلاثة وإيران لعدة أشهر، مما يسمح للقضية بالتمديد إلى ما بعد انتخابات نوفمبر التي قد يتم فيها إقصاء «ترامب» المناهض لخطة العمل الشاملة المُشتركة؛ وهو ما يؤكده «برزيميساو أوسيفيتش»، من «معهد الشرق الأوسط» بقوله: «يبدو أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي ينتظرون فقط الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، فهي أحد الأسباب الرئيسية لترددهم في إلغاء الاتفاق النووي، وفي حال ما تم انتخاب مُرشح ديمقراطي فسيسعون إلى المصالحة مع إيران، والعودة إلى المشاركة في الاتفاق من جديد».
ومع ذلك، يتفق معظم المحللين على أن المخاطر الناجمة عن لجوء الدول الأوروبية إلى هذه الآلية تفوق فوائدها المحتملة، واعتبر تقرير صادر عن «مجموعة الأزمات الدولية»، ببروكسل، أنه «في حين تعتقد أوروبا أن تطبيق الآلية كان خطوة ضرورية في ضوء التعديات المتزايدة لإيران، فإنه يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، وتهمش دور الدول الأوروبية، وتسرع من عملية الانهيار النهائي للاتفاق». علاوة على رفض كل من روسيا والصين لهذه الخطوة، واعتبارها رضوخا للإملاءات الأمريكية لتخريب الصفقة.
ويأتي الخلاف المحتمل بين الدول الأوروبية نفسها جراء إطلاق الآلية، كأحد أهم المخاطر. ووفقا لصحيفة «الجارديان» فإنه «من المرجح أن يتزايد الضغط الذي تمارسه واشنطن على الدول الثلاثة؛ لاتخاذ إجراءات عدائية ضد طهران، وهو ما قد يؤدي إما إلى الاستجابة لهذه المطالب، ومن ثم انهيار كلي للصفقة، أو رفض الضغوط، ومن ثمّ، انفصال بريطانيا عن فرنسا وألمانيا، لتوافق على هذه المطالب؛ وخاصة مع بحثها بشدة عن صفقة تجارية مع الولايات المتحدة في أعقاب انسحابها من الاتحاد الأوروبي».
فيما يبقى رد الفعل الإيراني الناجم عن تصرف الدول الثلاثة هو الأكثر خطورة. ففي ظل ممارسة هذه الدول ضغوطا على إيران للوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق، ومحاولتهم تضييق الخناق عليها، أو في حال كان هناك تصعيد عسكري آخر مع واشنطن؛ قد تواجه أوروبا رد فعل عنيف من طهران، وقد توسع سقف طموحات برنامجها النووي مرة أخرى».
علاوة على ذلك؛ فإن هذا الإجراء ربما يقوي شوكة العناصر المتشددة داخل مجتمع السياسة الإيرانية. وتشير «مجموعة الأزمات الدولية»، إلى أنه «أصبح من شبه المؤكد في ظل التوترات الحادة الراهنة، أن العناصر المتشددة الإيرانية ستستخدم هذه التطورات التصعيدية في الأوضاع السياسية لتبرهن بأن التعاون مع الدول الأوروبية بمثابة قضية خاسرة، وأن إيران يجب أن تترك الاتفاق وتتجه لاتخاذ إجراءات أكثر عدوانية»؛ وهو ما قد ينسف الاتفاق النووي في الوقت الذي قد تشهد إيران انتخابات برلمانية خلال العام الجاري.
ويؤكد «علي فايز»، من «جامعة جورج تاون»، بواشنطن، أن «إيران لديها انتخابات برلمانية في21 فبراير القادم، وبالتالي، لن يكون لدى أي من السياسيين المؤيدين للتعاون مع الغرب بشأن الاتفاق النووي، فرصة حقيقية لتولي أي نوع من الرقابة التشريعية على النظام، أمام هزيمتهم المؤكدة والمرتقبة أمام العناصر السياسية المتشددة؛ والتي أثبتت أنها على حق في تشكيكها في نوايا هذه الدول وتبنيها أجندة سياسية أكثر تصادمية، ومع وقوع البرلمان في قبضة المتشددين، فمن المحتمل أن يصبح روحاني كبطة عرجاء بلا أي أنياب، وبالتالي من المرجح أن يتم الإطاحة به في الانتخابات الرئاسية عام 2021, وإذا ما تم استبداله برئيس متشدد، فسيعمل بالتأكيد على ترك الاتفاق النووي في أقرب وقت ممكن».
على العموم؛ جاء قرار الدول الأوروبية الثلاثة بإطلاق آلية «فض النزاع»، -كأحد بنود الاتفاق النووي الإيراني- كخطوة عالية الخطورة مدفوعة بعدم وجود خيارات أفضل أمام تلك الدول؛ حيث تعزز تلك الآلية حالة الاستياء الإيرانية تجاه الجهود الأوروبية الرامية لدعم الاتفاق ومقاومة الضغوط الأمريكية؛ ما قد يقود روحاني لترك الاتفاق النووي بالكامل، فضلا عن أنها لا تحظى بدعم كل من روسيا والصين، ولا بفرصة حقيقة للنجاح مع رغبة ترامب في عدم تقديم أي تنازلات جديدة لطهران، والتي من شأنها إضعاف موقفه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.