top of page
24/12/2019

الانتخابات العامة التاريخية ومستقبل بريطانيا

شهدت بريطانيا يوم الخميس الموافق 12 ديسمبر أقوى انتخابات عامة في تاريخها، تمكَّن إثرها حزب المحافظين بقيادة بوريس جونسون من تحقيق انتصار ساحق، سيحدد سياسة بريطانيا لعقود قادمة، إذ حصل على 365 مقعدا، بزيادة 47 مقعدا عن الانتخابات العامة في 2017. وبالتالي يكون قد حصل على تفويض قوي لإنفاذ الـ«بريكسيت»، والبدء في حملة الإصلاحات الداخلية التي وعد بها الحزب في برنامجه الانتخابي، وتعد الانتخابات الأخيرة الأهم منذ عام 1979. والتي نجحت فيها مارجريت تاتشر؛ زعيمة حزب المحافظين في تشكيل حكومة غيَّرت الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية في بريطانيا.
وقد مني حزب العمال في هذه الانتخابات بانهيار غير متوقع؛ فعلى الرغم من كونه من قوى المعارضة الرئيسية، بقيادة «جيرمي كوربن» فإنه تعرض لخسارة 59 مقعدا، ما أنقص حصته إلى 203 مقاعد فقط، وذلك في أسوأ هزيمة انتخابية يتعرض لها الحزب منذ عام 1935. وهو ما دفع كوربن إلى إعلان نيته في التنحي عن قيادة الحزب، وعدم استعداده لخوض انتخابات نيابية على رأسه، ويمر الحزب بمرحلة غموض حول من سيحل محل كوربن، إذ يوضح المحلل الإنجليزي «جيمس بلودورث» أن «حزب العمال الآن يواجه تراجعا في الحياة الانتخابية». 
وتعد هذه الهزيمة الأسوأ لحزب العمال - منذ 48 عاما - وتعود إلى عدة عوامل؛ يكمن أولها في السياسة الاقتصادية الاشتراكية للحزب والتي لا تحظي بشعبية داخل أوساط المصوتين البريطانيين، ويشير المحلل الإنجليزي «بلودورث» - في افتتاحية مجلة فورين بوليسي- إلى أن: «هزيمة حزب العمال من حزب المحافظين كانت متوقعة جدا، وذلك بسبب سياساته الاقتصادية الاشتراكية، مثل: توفير الدعم المجاني لكل منزل، والبنية التحتية والمرافق، وهي السياسة التي لا تحظى بشعبية بين عديد من الناخبين»، ويرجع ثانيها إلى الحملة الموجهة ضده تحت زعم: «معاداة السامية»؛ فمما يميز حزب العمال هو تأييد كوربن وداعميه للقضية الفلسطينية، وهذا الموقف جعل بعض الصحفيين والسياسيين والنشطاء يقومون بمهاجمة زعيم حزب العمال، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على عدم وجود تأييد شعبي لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره؛ ويتمثل ثالث هذه العوامل في موقف الحزب الغامض تجاه البريكسيت؛ فقد أيدها بعض مؤيديه، ورفضها البعض الآخر، وطالبوا بإعادة الاستفتاء على مسألة الخروج، بينما في المقابل كان هناك دعم واضح للبريكسيت من قبل حزب المحافظين، وهو ما أثَّر بشكل جيد على الناخبين.
ووفقا لهذه المواقف والمعطيات، فإن حزب المحافظين لا يمكن إيقافه، وتؤكد «أماندا سلوت» - من معهد بروكنجيز- أن: «هذا الانتصار الانتخابي الساحق سوف يمكِّن جونسون من تنفيذ البريكسيت، وجدول أعماله الخاص بالتشريعات المحلية من دون أي معارضة مدة خمس سنوات قادمة، وسيحكم الحزب على الأغلب حتى عشرينيات القرن الحالي، لأنه من غير المرجح أن يتغلب أي حزب على هذا العجز في دورة انتخابية واحدة»، ما يعني أن الحزب قد حصل على الفرصة لتحديد مستقبل بريطانيا.
وقد أثَّرت نتائج الانتخابات على الظروف الاقتصادية؛ إذ بدأت في التحسن مع انتهاء الانتخابات، وهو ما أوضحه منصور محيي الدين- كبير الاستراتيجيين في شركة «نات ويست ماركتس»، في مقابلة مع صحيفة التليجراف- إذ أكد أنه: «من المقرر أن يرتفع الجنيه الإسترليني مقابل الدولار الأمريكي ليتراوح بين 1.35 دولار و1.45 دولار، نظرا إلى الخروج المنظم من الاتحاد الأوروبي في يناير، وزيادة فرص المفاوضات التجارية الأكثر سلاسة في عام 2020. والتي أدت إلى زيادة الثقة في الاقتصاد البريطاني»، وتؤكد معظم التحليلات فعليا على الارتفاع المنتظر لقيمة الجنيه الإسترليني، إلى جانب زيادة ثقة المستثمرين في حكومة مدعومة بأغلبية كبيرة، والتي من المحتمل أن تنفذ الخروج من الاتحاد الأوروبي بسرعة وحسم، لكن ذلك على المدى القصير.
أما على المدى الطويل فيرى «توني باربر» - الصحفي الاقتصادي بصحيفة فايننشال تايمز- أن حكومة المحافظين: «ستجد صعوبة في تنشيط الاقتصاد البريطاني بسبب القيود المالية وانخفاض النمو المتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومستويات الإنتاجية الضعيفة وصراع التجارة العالمية»، فضلا عن أن الظروف المحلية لا تؤدي إلى تحقيق النمو الاقتصادي المستدام، فمن المحتمل أن يتم عرقلة المستثمرين، وتعطيل التدفقات التجارية التي قد تسبب انخفاضا في الإيرادات الحكومية على المدى الطويل.
ويشير «كيفين ألبرتسون» - أستاذ الاقتصاد بجامعة مانشستر متروبوليتان- في مقابلة مع صحيفة «ذي آي» البريطانية إلى أنه: «من المحتمل أيضا أن يكون جونسون سيئ الحظ إذا انتقل الاقتصاد العالمي إلى الركود الاقتصادي خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو ما سيجعل الأدوات الاقتصادية التي لديه وثقة شعبه ليست كافية للتعامل مع مثل هذا الموقف»؛ وبالتالي، فيحتمل أن التطورات الاقتصادية الداخلية والخارجية ستتحدى إلى حد كبير تعهدات الإنفاق التي تعهدت بها حكومة المحافظين قبل الانتخابات، والتي التزمت فيها بإنفاق ما لا يقل عن 100 مليار جنيه إسترليني على الخدمات العامة خلال فترة الولاية البرلمانية.
وتعد مسألة التخارج من الاتحاد الأوروبي من الأولويات الرئيسية لحكومة جونسون خلال ولايتها في الخمس سنوات القادمة، وهو ما جعلها تظهر في صميم حملته الانتخابية؛ إذ كانت عاملا حاسما في فوز حزب المحافظين، نظرًا إلى أنها كانت العهد الانتخابي الذي وعد به في الدعاية الانتخابية، وهو ما أكده جونسون في خطاب النصر؛ إذ قال: «إن هذه الانتخابات تعني أن إنجاز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبح الآن قرارا لا يمكن دحضه أو مقاومته من جانب الشعب البريطاني»؛ وفي هذا السياق يقول «توماس رينز» - من المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس»: إن «الشيء الأكثر أهمية هو أن نتيجة الانتخابات تعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحدث بالتأكيد، إذ إنه منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شهدنا ثلاث سنوات ونصف السنة من حالة عدم اليقين المستمر، فكانت جميع النتائج لا تزال ممكنة، أما الآن فخروج بريطانيا من الاتحاد سيصبح لا رجعة فيه اعتبارا من 31 يناير»، وذلك لأن «الأغلبية الكبيرة لـ«حزب المحافظين» في الحكومة البريطانية الجديدة ستحدد النهج المتبع للخروج من الاتحاد الأوروبي» بحسب ما يقول «ديفيد وينيراي»-؛ من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
والأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن الحكومة لا تمتلك سوى فترة انتقالية مدتها عام للتفاوض والتوصل إلى صفقة جديدة قبل مغادرة الكتلة، وذلك اعتبارا من تاريخ البدء في إجراءات الخروج المقرر له 31 يناير 2020؛ وهي فترة غير واقعية بالمرة وغير قابلة للتحقيق ما لم تقدم بريطانيا تنازلات كبرى حول عدة قضايا كمعايير المنتج وحرية الحركة؛ ورغم ذلك فإن جونسون أكد التزامه بالموعد النهائي للخروج، وهناك توقعات راهنة بأنه سينفذ هذا التعهد قانونيًا من خلال تعديل اتفاق الانسحاب، ولذلك بدأ العديد من المحللين في إعادة إحياء فكرة أن سيناريو الخروج من دون «صفقة» هو نتيجة محتملة؛ إذ تترك المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق يحدد ملامح العلاقة التجارية أو السياسية أو الاجتماعية مع الكتلة الأوروبية.
والخروج من دون اتفاق قد يعد كارثة اقتصادية بالنسبة إلى بريطانيا، لكنها نتيجة يفضلها معظم نواب المحافظين المتشككين في الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، فهناك سيناريوهات تشير على الأرجح إلى أنه في ضوء الأغلبية الساحقة للمحافظين قد يرضخ جونسون ويتجنب هذا المسار الخطير للخروج من دون اتفاق لصالح تمديد الموعد النهائي فعليًا لمغادرة الاتحاد، وعلى النقيض من فترة ما قبل الانتخابات العامة، لم يعد على جونسون أن يعتمد على ما يسمى بـ«أعضاء المحافظين المتشددين» بالوقت الراهن في الوقت الذين يعارضون فيه تقديم تنازلات كبرى للاتحاد الأوروبي.
وهذا يعني أنه يمكن لجونسون أن يتخلى عن وعده بعدم تمديد الموعد النهائي للفترة الانتقالية للبريكست لما بعد 2020. ما يتيح له مزيدًا من الوقت للتفاوض على صفقة أفضل للخروج، وتؤكد «أماندا سلوت» - من معهد بروكنجيز- ذلك قائلة: «على الرغم من أن المحافظين وعدوا في تصريحاتهم بعدم تمديد الفترة الانتقالية، يبدو من المحتمل أن جونسون سيُضغط عليه لطلب مزيد من الوقت وإلا فإن البلاد ستكون قاب قوسين أو أدنى من الانهيار بعد عام من الآن، بما في ذلك احتمال القبول بالحد الأدنى من الترتيبات التجارية مع دول الاتحاد أو عمل خروج صعب وفقًا لشروط منظمة التجارة العالمية». 
وفيما يخص تأثير الانتخابات على السياسة البريطانية بشكل أوسع، فمن الصعب التعرف على أي تحولات كبرى في هذا الوقت، باستثناء ملف الصحة؛ إذ لم يكن للملفات الأخرى رؤى واضحة في برامج المرشحين، وفي هذا الصدد، يقول «دوناتيان روي» - من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية-: «لقد أصبح واضحًا أنه لم يكن هناك أي مجال للحديث عن أي شيء سوى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في هذه الانتخابات، كما لم يُترك أي مجال لمناقشة الأولويات السياسية المهمة فيما يتعلق بالتقشف، أو الإنفاق العام، أو مكانة الدولة البريطانية على الصعيد الدولي، أو تغير المناخ، وهي مسألة كانت مع ذلك على قمة أولويات الناخبين من الشباب البريطاني، وبالتالي لن تكون لدى لندن رؤية سياسية واضحة لما سيحدث بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو أمر كفيل ينبئ بتردي الصورة الاقتصادية والتأثير على أي إنفاق يتعهد المحافظون بتقديمه لأي من المشروعات والبرامج». 
ويعد موضوع السياسة الخارجية البريطانية وتفاعلاتها الأكثر إهمالا والأقل تناولا خلال الحملات الانتخابية وسط زخم مسألة الخروج، باستثناء العلاقات الأنجلوأمريكية؛ فالمجتمع الدولي خارج حدود الدولة البريطانية تم تجاهله بالكامل من قبل جميع السياسيين البريطانيين، ولم تعد قضايا الشرق الأوسط تلقى اهتماما حتى في المناقشات والخطب التي تخللت الحملة الانتخابية، ومع ذلك، فإن عدم الاهتمام بهذه الموضوعات والقضايا من قبل المحافظين على وجه الخصوص يعد في نواح كثيرة مفيدًا في حد ذاته؛ إذ إنه يشير إلى أنه من غير المرجح أن تقوم حكومة المحافظين بأي تغييرات جذرية في نهج بريطانيا تجاه الشرق الأوسط، ويشمل ذلك التمسك بمعايير ومبادئ الحكومة البريطانية السابقة، والتي تتميز بالحفاظ على العلاقات الجيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي، والعلاقات الودية مع إسرائيل، والبقاء ضمن الاتفاق النووي الإيراني، مع إعطاء الأولوية للقضاء على الإرهاب، والسعي إلى توسيع نطاق العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة.
بينما يرى بعض المحللين أنه إذا لم يتم انتخاب حكومة عمالية بقيادة كوربين، فستكون هذه السياسة ثورية في تغيير مثل هذه المقاربة، وفي هذا السياق، يقول «تيم سبرينجيت» محلل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: «إن أي حكومة بريطانية بقيادة جيريمي كوربين كانت ستتبع سياسة خارجية حيال الشرق الأوسط بصورة مختلفة بشكل ملحوظ عن الحكومة الحالية التي يقودها المحافظون من حيث الأسلوب والمنهج، وقطعًا ستُظهر الحكومة عداءً تجاه إسرائيل، ودعم القضية الفلسطينية، ومن المرجح أن تتخلى عن حلفائها في الخليج، وستواصل العمل على تحقيق انفراجة في الملف الإيراني».
وإجمالا يمكن القول: إن ملامح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من قبل حكومة جونسون ستحظى بصلاحيات مطلقة لم تتضح بعد، فقد يتم تمديد الموعد النهائي للمغادرة، وقد يتم إبرام اتفاق في الإطار الزمني المتفق عليه وهو عام واحد، وقد تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي دون تمديد الموعد النهائي؛ وبصرف النظر عن ذلك، لعبت الانتخابات دورًا في ضمان أن تبدأ عملية الخروج في 31 يناير 2020. ونتيجة ذلك، سيواجه الاقتصاد حالة من الفوضى على المدى الطويل، ما يجعل التعهدات الخاصة بإنفاق المحافظين على المشروعات والبرامج الطموحة موضع شك على مدى السنوات الخمس المقبلة على الأقل، ومع الهزيمة الساحقة لحزب العمال، بيَّنت الانتخابات أن جونسون لن يواجه منافسًا حقيقيًا في أي انتخابات قادمة على مدى أكثر من عقد من الزمن، وهو ما سيكون له أثره على السياسة البريطانية في المرحلة المقبلة. 

{ انتهى  }
bottom of page