21/12/2019
الكفاح من أجل الإصلاح في العراق ولبنان
وجد العالم نفسه في الوقت الحالي غارقا في موجة من الاحتجاجات التي انتشرت عبر قاراته بسرعة شديدة، إذ تلتهم نيرانها شيلي وبوليفيا وهايتي وكولومبيا، ووصل لهيبها إلى السودان والجزائر، وتشتعل غليانا في هونج كونج وجورجيا، ولم تسلم الديمقراطيات الراسخة، مثل: هولندا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من تأثيرها؛ فقد خرج المتظاهرون إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في بعض الحالات، وتغيير النظام بالكامل في حالات أخرى، وفي قلب هذه الظاهرة العالمية يشهد الشرق الأوسط أيضا مظاهرات واحتجاجات غير مسبوقة، اندلعت في العراق ولبنان وإيران في الأشهر الأخيرة، وتعد الاحتجاجات المشرقية العربية من بين أكثر الحركات شمولية، وتعتبر الحالة العراقية الأكثر فتكا من بين جميع حركات الاحتجاجات العالمية، والتي أظهرت خصائص شبيهة باحتجاجات ما يسمى الربيع العربي لعام 2011، والتي لم تؤثر على هذه البلدان إلى حد كبير.
وفق هذه المعطيات السياسية الحالية اجتمعت مجموعة من الأكاديميين المرتبطين بالمعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس» في 3 ديسمبر 2019، لمناقشة أسباب ونتائج الحركات الاحتجاجية المستمرة، والتباحث بشأن مستقبلها، وقد ترأس هذا الحدث لينا الخطيب رئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية، وريناد منصور من المعهد الملكي للشؤون الدولية، وعلياء المبيّض المدير الإداري لبنك الاستثمار «جيفريز».
في هذه الندوة قدَّم الخبراء نظرة مثيرة للاهتمام حول القواسم المشتركة والاختلافات التي تحدد حركات الاحتجاج المتزامنة تقريبا في العراق ولبنان؛ إذ أوضحوا أن «هناك الكثير من أوجه الشبه بين مأزق كل من لبنان والعراق»، وأضافوا أنه على نطاق واسع «يعاني كلا البلدين من تقاسم السلطة على أساس طائفي؛ إذ يضطر المواطنون إلى الاختيار من بين الأحزاب التي عادة ما تكون لها هويات أو تاريخ طائفي، والتي تمارس سلطتها من خلال المليشيات والمحسوبية». ويعاني كلاهما أيضا من عدم استقرار مزمن، مدفوع في لبنان بسبب الفساد المتفشي وسوء الإدارة الاقتصادية التي طال أمدها، مسفرة عن أزمة الديون السيادية، ومدفوع في العراق نتيجة عدم الاستقرار لما يقرب من 16 عاما من الحرب المستمرة، وسوء الإدارة الاقتصادية والاضطرابات السياسية.
وأكد المشاركون في الندوة أن الاختلافات بين الاحتجاجات في لبنان ونظيرتها بالعراق وإن كانت واضحة في بعض الأماكن إلا أنه يمكن اعتبار معظمها اختلافات شكلية، ويعد أحد أمثلة الاختلافات هو التركيبة السكانية لأولئك الذين يحتجون وكذلك حجم المعارضة، ففي الحالة اللبنانية -كما لاحظت لينا الخطيب- بدت الاحتجاجات كما لو أنها أكبر من أي احتجاجات في تاريخ البلاد؛ إذ يقدر عددهم بحوالي مليون شخص في ذروتها، ويتكون معظمها من الشباب لكنها تعبر عن الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية والطبقية والنوعية، ولم تقتصر على بيروت فحسب؛ بل امتدت إلى العديد من المدن الأخرى في جميع أنحاء البلاد، مثل طرابلس وصور وزحلة ومدينة عاليه.
من جانبه أكد ريناد منصور أن العراق يختلف إلى حد ما، فالمتظاهرون الذين خرجوا إلى الشوارع هم من الشباب في الغالب، ومعظمهم من الذكور والعزاب والعاطلين عن العمل، بالإضافة إلى أنهم ينتمون إلى المناطق ذات الأغلبية العربية الشيعية، كما أنه كان يتم تفريق المتظاهرين جغرافيا، بما في ذلك المظاهرات في بغداد والديوانية والناصرية والحلة والنجف وكربلاء؛ لكن لم يكن هناك أي تفريق في المناطق التي يهيمن عليها المواطنون السنة بالعراق والشمال الكردي، إذ خرج المتظاهرون بأعداد أقل من لبنان.
وقد اتفق كل من لينا الخطيب وريناد منصور- رغم هذه الاختلافات الواضحة في طبيعة الحركات الاحتجاجية- على أن هذه الخصائص قد تعزز في الواقع من فرصها ونتيجتها نجاحا أو إخفاقا، وجادلوا بأن كل خاصية في احتجاجات كلتا الدولتين تزيد من احتمالات نجاحها، على عكس الحركات السابقة، وبالنسبة إلى منصور فإن حقيقة أن معظم المشتركين عاطلين عن العمل، ويفتقرون إلى ضغوط العودة إلى العمل، تعني أن لديهم قوة دافعة أكبر للبقاء في الشارع لكونهم صغارا في السن، وهذا يعني أنه ليس لديهم من يعولونه، ويحتاجون إلى توفير احتياجاتهم، ولذلك فإن متوسط أعمار المتظاهرين يعوض بعض الشيء عن الافتقار أو الحديث عن مدى حجم ونطاق المظاهرات.
وعلى العكس، في لبنان، فإن النطاق الهائل للاحتجاجات له ميزة القدرة على التغلب على الحكومة والضغط عليها من أجل الإصلاح، فحتى الآن حققت كلتا الحركتين نتائج مماثلة بتغيير في الحكومة، فقد استقال رئيس الوزراء سعد الحريري في أواخر أكتوبر، وفتح الطريق لتشكيل حكومة جديدة، ولحق به رئيس الوزراء عبدالمهدي الذي استقال في 29 نوفمبر، ورغم أن الأوضاع السياسية وآلياتها تختلف في كلا البلدين فإن نتائج الاحتجاجات كانت حتى الآن مماثلة بشكل ملحوظ.
وثمة تشابه أيضا بين العراق ولبنان فيما يتعلق بالعقبات التي تواجهها كلتا المجموعتين من المتظاهرين في محاولة لتحقيق أهدافهم، ففي حين أن وزراء الحكومة قدموا استقالتهم في أعقاب المظاهرات، فإن هذا لا يفي بالمطلب الأكبر للعديد من المحتجين، الذين طالبوا بتغيير النظام بأكمله في كلا البلدين؛ إذ ظلت الدولة مصممة على تقديم الحد الأدنى من التنازلات ومحاولة ردع الاحتجاجات من خلال العنف؛ ففي لبنان ناضلت الأحزاب المسيحية والشيعية والسنية منذ فترة طويلة مع بعضها بعضا لممارسة نفوذ أكبر على الدولة، وفي العراق مارست الأحزاب الكردية والسنية والشيعية الأمر ذاته، بالإضافة إلى معاناتهم من القتال الطائفي.
والحقيقة أن واقع الانقسام الطائفي يعد أحد العوامل المحفزة الرئيسية التي دفعت المتظاهرين إلى الخروج إلى الشارع في كلتا الدولتين، حيث تسبب في توحيدهم دفاعًا عن وجود دولتهما، وفي هذا الصدد يقول «جيفري فيلتمان» من معهد بروكينجز: «إن الوضع الراهن لمؤسسات كلتا الدولتين، وحالة التردي التي وصلت إليهما ومدى انقسامهما جراء النفوذ الإيراني أوجد هدفًا مشتركًا في تجنب تلك المؤسسات أي نوع من المساءلة والإطاحة بها، وإدراك أن هناك عدوا مشتركا، ألا وهو طهران، التي باتت تهدد استقرار كلتا الدولتين، جراء القوة والنفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري لها، ومن ثم كان لزامًا أمام تلك الاحتجاجات تجاوز الانقسامات الداخلية أمام مواجهة هذا العدو، وضمان بقاء مؤسسات الدولتين من دون أي انهيار».
وقد ظهرت آليات الدولة العميقة الطائفية في كلتا البلدين لقمع هذه الاحتجاجات؛ حيث بدأت الأحزاب الشيعية، مثل: حركة أمل وحزب الله وحليفه المسيحي؛ التيار الوطني الحر في تنسيق وتوحيد استجاباتها الجماعية حيال الاحتجاجات، وفي العراق اتفقت أكبر كتلتين برلمانيتين، هما تحالف «سائرون» وتحالف «الفتح»، على وجوب الحفاظ على استقرار الدولة، كما أن رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني أشار إلى أنه يجب إعطاء الأولوية للحوار بدلاً من الاحتجاج رغم الانقسامات والاختلافات العميقة بين أربيل وبغداد، ولا شك أن النخب السياسية القديمة في كلا البلدين تسعى إلى النأي بنفسها والدولة ذاتها بعيدًا عن المساس بأي من مصادر نفوذها، وفي نهاية المطاف يتضح جليا أن حالة التشرذم السياسي وعدم توافقها يجعل من الصعب على المتظاهرين النجاح في الإطاحة بحكومة كلتا الدولتين.
ولعل ما ضاعف من حدة الاحتجاجات هو تأثير إيران ونفوذها في كلتا الدولتين، ولهذا جعل المتظاهرون مسألة إنهاء الهيمنة السياسية الإيرانية على رأس مطالبهم؛ لأنها تغذي الفساد والطائفية بداخلهما، وهذا ما نوه إليه تامر بدوي من منتدى الشرق بإسطنبول؛ ففي مقال له قال: «تعتبر جمهورية إيران العراق ولبنان بلدين تتمتع فيهما بنفوذ سياسي وعسكري لا بأس به من خلال حلفائها والوكلاء والجماعات الأخرى المتشددة، وهذا الدعم يشكل إحدى الركائز الأساسية لاستراتيجية الردع التي تعتمدها جمهورية إيران في الشرق الأوسط».
لقد استثمرت إيران الكثير من مواردها وقواتها ووقتها في بناء نفوذها السياسي والعسكري، وقد تسمح بالإطاحة بوكلائها السياسيين على يد المتظاهرين إيمانًا منها بأن أي حكومة مقبلة بالعراق أو لبنان ستتلقى دعمًا إيرانيا بلا أدنى شك. وبصرف النظر عن المخاوف الاستراتيجية، فإن القيام بهذا الدعم يسمح لها بالتمسك بمكانتها كممثل إقليمي قوي لا يسمح بالانشقاق والانسلاخ عن مبادئها الثورية والطائفية من جانب أي من حلفائها.
ومع أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار، خلص جميع المشاركين بالندوة إلى أن الاحتجاجات حققت بعض المكاسب المهمة، إلا أن قدرتها على تحقيق تغيير بالأنظمة السياسية محدودة للغاية، ولذلك اتفقوا على أن النتيجة الأكثر ترجيحًا هي أن تتلاشى هذه الاحتجاجات ببطء، تاركة الدولتين في معظمهما تتمتعان بالهدوء بعد إجراء إصلاحات محدودة نوعًا ما، ولهذا أشارت «زينب أولابيك» من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى أنه: «بعد أن تهدأ الاحتجاجات في العراق من المحتمل أن يتم إدخال إصلاحات تجميلية، وتأجيل التغيير الهيكلي السياسي المطلوب»، وهو ما ينطبق على لبنان، وفقًا لما ذكرته كل من علياء المبيض ولينا الخطيب؛ في ظل نظام طائفي يتصدى لأي تغييرات جوهرية.
ومع ذلك «لن تقلل هذه الإصلاحات التجميلية من حالة عدم الرضا الشعبي على المدى الطويل، فالنظام السياسي العراقي الذي تم إنشاؤه بعد عام 2003 يتعرض لانتقادات شديدة، ولن تؤدي أي حلول قصيرة الأجل إلى استرضاء الكثير من العراقيين الذين لا يزالون خارج سيطرة هيكل السلطة، وإذا تركت الأوضاع كما هي من دون معالجة... فسيكون العراق مفتوحًا لدورة متواصلة من الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار»، وسيثبت كل من العراق ولبنان عدم وجود رغبة حقيقية لتغيير جوهري محتمل، كما أنه لا يمكن تحمل أي حلول مؤقتة تفرضها الحكومات المعنية، ومن ثم فإن الاحتجاجات المتكررة ستكون السيناريو المرتقب المتجدد تقريبًا.
ويخلص الدكتور بول سالم رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن إلى أن «الصراع على السلطة بين الطبقة الحاكمة القديمة والحركة الاحتجاجية الصاعدة سيكون طويلا ومريرًا... وسيتم تقييمه عبر سنوات، وليس شهورا... لا أحد قد يتخلى عن السلطة بسهولة، أو عن طيب خاطر منه». وفي أسوأ الحالات -كما قال منصور- قد يؤدي هذا التخلي أو الإطاحة إلى حرب أهلية في مرحلة ما في العراق أو لبنان أو كليهما، كما حدث في الواقع بدول ثورية أخرى، مثل: ليبيا واليمن وسوريا، وربما قد تكون هذه النتيجة في العراق أكثر احتمالا منها في لبنان. وفعليا قُتل أكثر من 300 متظاهر عراقي مقارنة بما يقدر بـ7 في لبنان؛ ولكن إذا قرر المتظاهرون في أي من البلدين تنظيم وتسليح أنفسهم، إما بغرض الحماية أو للدفع لتحقيق أهدافهم المتمثلة في الإطاحة بالدولة، فمن المحتمل أن يظهر سيناريو حرب أهلية.
وفي النهاية، خلص محاضرو الندوة إلى أن الاحتجاجات أثبتت حتى الآن أنها الأقوى في الذاكرة التاريخية في العراق ولبنان، إلا أنها تواجه دولة اتحدت فيها أحزاب المعارضة للحفاظ على استقرار المعايير الهيكلية للحكم وعدم تغييرها، أضف إلى ذلك أن النخب السياسية في كلتا الدولتين يتم تعزيزهما من قبل إيران والمليشيات التابعة لها، والتي تسعى إلى دعم نفوذها الطائفي، ولهذا لجأت كلتا الدولتين إلى القوة، والتي من المرجح أن تتغلب على المتظاهرين في نهاية المطاف، وانتهت الندوة إلى أن أمل أن تؤدي هذه المظاهرات إلى إحداث تغيير ذي معنى هو في غير محله، وبدلاً من ذلك، ستبقى دورة الطائفية والفساد وعدم المساواة والعنف التي اتسمت بها هذه الدول عقودا مستمرة على الأرجح.